أوبنهايمر.. سارق النار المعذب!

00:04 صباحا
قراءة 3 دقائق

بتوقيته ورسالته لم يكن أوبنهايمر، مجرد شريط سينمائي متقن فنياً حاز إقبالاً جماهيرياً حيثما عرض.

إنه رسالة من الماضي المروع بقنبلتي «هيروشيما» و«نجازاكي» الذريتين إلى الحاضر المهدد بحرب نووية مدمرة.

موسكو تصرح من وقت لآخر: «لا تنسوا أننا دولة نووية وأن استخدام الأسلحة النووية وارد كخيار أخير».. وواشنطن ترد بمناورات بحرية تستخدم فيها أسلحة نوعية وتصريحات مقاربة.

بين الماضي بإرثه المرير والحاضر بتساؤلاته المخيفة يسرد الشريط السينمائي سيرة عالم الفيزياء النظرية الأمريكي روبرت أوبنهايمر الذي يطلق عليه «أبو القنبلة الذرية».

يستند السيناريو إلى جهد توثيقي فائق الأهمية ضمه كتاب نشر عام 2005 حاز جائزة «بوليتزر» يحمل عنواناً لافتاً: «بروميثيوس الأمريكي- إنجازه ومأساته» للكاتبين «كاي بيرد» و«مارتن شيروين».

في الأسطورة الإغريقية «بروميثيوس» هو «سارق النار»، الذي تحدى الإله «زيوس» وعلم البشر أسرار النار وقدرتها على تطوير حياتهم.

هذا هو دور العلم على وجهه الصحيح، لكن النار التي أشعلها أوبنهايمر قتلت ودمرت وأحرقت آلاف اليابانيين في الحرب العالمية الثانية.

لم تكن هناك ضرورة عسكرية لاستخدام السلاح الذري.

هذه الحقيقة أقلقت ضمير العالم الأمريكي، الذي ظن أن قنبلته سوف توقف كل الحروب، فإذا بها تشعل صراعاً ضارياً يتمدد في الزمن.

تنازعته مشاعر متناقضة بين التطور العلمي الذي أحدثه والاستخدام العسكري للوحش الذي أطلقه.

لم يكن متحمساً لاستخدام القنبلة الذرية، التي سابق الزمن أثناء الحرب العالمية الثانية للحصول عليها قبل الألمان.

لم يندم على اختراعه باعتباره كشفاً علمياً، لكنه بعد محنة «هيروشيما» و«نجازاكي» استشعر مسؤولية أخلاقية عما لحق بهما من تقتيل جماعي.

بتعبيره: «الآن أصبحت أنا الموت».. «مدمر العالم».

تحت وطأة أزمة ضميره دعا مبكراً بعدما بات مؤكداً أن السوفييت أوشكوا على صناعة القنبلة الذرية إلى الحوار والتفاوض لوقف سباق التسلح المرعب، الذي يوشك العالم أن ينجرف إليه.

لم يستمع إليه أحد في أوساط صناعة القرار، ولا جرت أدنى استجابة من الرئيس الأمريكي هاري ترومان.

في لقاء وحيد وعاصف مع ترومان تناقضت الخيارات الرئيسية بين الرئيس و«أبو القنبلة الذرية».

الأول، يستشعر القوة المدمرة الهائلة التي تمتلكها بلاده وما تضفيه عليها من عظمة عسكرية وسياسية.

والثاني، لا يخفي قلقه وتبرمه من الاستخدام السياسي والعسكري لاختراعه.

«أتظن أن اليابانيين يعرفون اسمك، إنهم يعرفون اسمي أنا»- هكذا خاطبه الرئيس عندما ضاق ذرعاً بتذمره.. وقد خرج شبه مطرود من البيت الأبيض. كانت تلك لحظة فراق بين تصورين متناقضين لإدارة السلاح الجديد.

ترومان أراده ترهيباً للأعداء والحلفاء معاً تفرض به الولايات المتحدة كلمتها على العالم دون أدنى قيود أخلاقية.

وأوبنهايمر أراده إنجازاً علمياً ينبغي أن توضع قيود صارمة على استخدامه بالتفاوض مع السوفييت لمنع أية حروب مدمرة لاحقة.

بقوة السلطة فرض تصور ترومان نفسه، غير أنه باتضاح حقائق الردع المتبادل بين اللاعبين الدوليين الكبيرين أمريكا والاتحاد السوفييتي تبدت أهمية أطروحة أوبنهايمر، التي وجدت طريقها إلى موائد التفاوض دون أن يتخليا تماماً عن مخزونهما النووي.

جدير بالذكر هنا أن رئيساً أمريكياً آخر هو باراك أوباما، زار موطن الجريمة التاريخية، معتذراً للشعب الياباني، غير أن ذلك لم يكن كافياً لإبراء الذمة.

الاعتذار الحقيقي أن تتأكد البشرية بصورة نهائية أن أسلحة الموت الجماعي لن تستخدم مرة أخرى، وهو ما لم يحدث حتى الآن من الأطراف الدولية المتصارعة في الحلبة الأوكرانية.

على خلفية مواقفه، التي تخالف ما استقرت عليه الإدارة الأمريكية، دفع «أوبنهايمر» ثمناً باهظاً من سمعته وسلامته النفسية. حاصرته شبهات أنه هو الذي سرب أسرار القنبلة الذرية إلى السوفييت.

تحول من بطل قومي صورته تتصدر مجلة «التايم» والهتاف باسمه يدوي في التجمعات العلمية والعامة، إلى متهم في ذمته الوطنية، ومشتبه في أن يكون قد خان بلاده.

تبددت قداسته العلمية كعالم يضاهي «البرت أينشتاين»، الذي التقاه وشجعه على المضي قدماً في أبحاثه العلمية.

بدا «بورميثيوس الأمريكي» معذباً بإنجازه ومتعباً في ضميره.

حاول صناع الشريط السينمائي سد ثغرات الذاكرة الإنسانية، حتى لا تتكرر مأساة «هيروشيما» و«نجازاكي» بصورة أخطر وأفدح.

أرادوا أن يقولوا: «لا تنسوا».

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/4zfhzt9x

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"