واشنطن وجوار الفتنة في آسيا

00:35 صباحا
قراءة 3 دقائق

يتصاعد منسوب الخصام والمواجهة في شرق آسيا بين دول متجاورة تجمعها الجغرافيا وأحداث التاريخ وتفرق بينها المصالح الاقتصادية والحسابات الجيوسياسية، وتسهم الولايات المتحدة الأمريكية بقسط وافر في تأجيج نيران الفتنة بين دول يراد لها أن تكون ساحة لتصفية الحسابات ولحسم المواجهة بين القوى الكبرى من أجل فرض الهيمنة على العالم. إذ تستثمر واشنطن الخلافات الحدودية بين الدول الآسيوية من أجل إبقاء دول المنطقة في حالة صراع مستمر وتنخرط بشكل مباشر في الخلافات المتعلقة بتقاسم الموارد الطبيعية وفي مقدمتها مياه الأنهار التي ينبع قسم كبير منها من الصين التي قامت ببناء سدود عملاقة قلصت بشكل واضح من حصة جيرانها من المياه العذبة، وتحاول في السياق نفسه السيطرة على المعابر البحرية التي تلعب دوراً رئيسياً في طرق التجارة الدولية.

ويمكن القول إن القمة التي جمعت مؤخراً واشنطن وأبرز حلفائها في آسيا وهما اليابان وكوريا الجنوبية في كامب ديفيد بالولايات المتحدة الأمريكية، كان هدفها الأساسي فرض مزيد من الضغط على الصين واستثمار المخاوف الأمنية للدول الآسيوية من أجل دعم الهيمنة الأمريكية ومعها الغربية على العالم، الذي بدأ يشهد تحولات جيوسياسة كبرى. ومن الواضح أن واشنطن ما فتئت تبذل جهوداً معتبرة بغرض إذابة الجليد بين سيؤول وطوكيو بسبب الخلافات بين الجانبين التي تعود إلى فترة الحرب العالمية الثانية التي اقترفت خلالها اليابان جرائم ضد الشعب الكوري. وكان الرئيس الأمريكي بايدن قد التقى سنة 2021 رؤساء حكومات أستراليا واليابان والهند لإحياء تحالف «كواد» لمواجهة ما يوصف بالنفوذ الصيني المتعاظم الذي بات يقض مضاجع النخب السياسية الأمريكية.

وبموازاة تحالف العيون الخمسة الذي يضم الدول الناطقة بالإنجليزية، حرصت واشنطن على تأسيس تحالف جديد سنة 2021 له علاقة مباشرة بآسيا وموجّه في الأساس للتصدي للنفوذ الصيني، ويهدف هذا التحالف الثلاثي إلى تطوير القدرات العسكرية الأسترالية في المجال البحري لمواجهة المخاطر المحتملة الناجمة عن التطور الكبير الذي تعرفه البحرية الصينية التي باتت تفرض سيطرتها بشكل واضح على المحيطين الهادي والهندي.

ويكمن المثال الأبرز لجوار الصراع والفتنة في آسيا، في الخلاف الحدودي بين الصين والهند الذي يمكنه أن يعود إلى الواجهة في أي لحظة في سياق سعي الدول الغربية بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية إلى احتواء الصين ووقف سيطرتها على الإنتاج الصناعي في العالم من خلال تحويل الهند إلى مركز جديد للصناعات العالمية بهدف تأمين سلاسل التوريد وتقليص التبعية الغربية للصناعات التحويلية الصينية. ويعود النزاع الحدودي بين بكين ونيودلهي إلى عقود طويلة من الزمن، حيث لعب الاستعمار البريطاني للهند دوراً كبيراً في خلط أوراقه قبل مغادرة قوات التاج البريطاني للهند. وقد تسبب هذا النزاع في نشوب مواجهات مسلحة بين الجانبين في العديد من المناسبات خاصة في سنة 1962، وتكرّرت المناوشات في سنوات 1967 و1987 و2013، ثم في سنتي 2017 و2020 وبالتالي فإنه على الرغم من محاولات التقارب والصلح بين البلدين اللذين يجمع بينهما تحالف دول البريكس، إلا أن واشنطن تحاول بشتى الطرق الإبقاء على أسباب التوتر بين البلدين من خلال دعم الهند من أجل أن تصبح القوة الإقليمية الأبرز في المنطقة على حساب الصين.

وتعمل واشنطن في السياق نفسه على إدارة الصراعات الحدودية في آسيا الوسطى لتحقيق مصالحها ولعرقلة نفوذ الصين ومشاريعها المرتبطة بطريق الحرير، خاصة أن دول المنطقة ورثت مشاكل حدودية عن الحقبة السوفييتية التي جرى فيها تعديل الحدود بطريقة بيروقراطية لم تراع الحساسيات الموجودة بين الدول. ويعرف الخلاف الحدودي بين قيرغيزستان وطاجيكستان، في هذا السياق، تطورات دراماتيكية تهدّد استقرار آسيا الوسطى التي تعاني دولها من هشاشة مزمنة في مؤسساتها الدستورية.

نستطيع أن نخلص في الأخير إلى أن هناك قاسماً مشتركاً بين كل مشاكل الجوار الملتهب في آسيا، المتمثل في الذراع الطويلة للولايات المتحدة الأمريكية في هذه القارة الاستراتيجية، فهي تتدخل أحياناً لخفض التصعيد كما يحدث بالنسبة للخلاف بين اليابان وكوريا الجنوبية، وتحشر أنفها في أحايين أخرى من خلال تحريض جيران خصمها الصيني على التمسك بمطالبهم الحدودية.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/mw76twan

عن الكاتب

أستاذ الفلسفة في جامعة وهران الجزائرية، باحث ومترجم ومهتم بالشأن السياسي، له العديد من الأبحاث المنشورة في المجلات والدوريات الفكرية، ويمتلك مؤلفات شخصية فضلا عن مساهمته في تأليف العديد من الكتب الجماعية الصادرة في الجزائر ومصر ولبنان

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"