زيارة جديدة إلى برقاش

00:19 صباحا
قراءة 4 دقائق

عبدالله السناوي

حين حلت الذكرى الرابعة لرحيله في فبراير (2020)، دعتني السيدة قرينته أن نطل معاً على بيته الريفي في برقاش، حتى أرى ما طرأ على المكان من إصلاحات حاولت أن تعيده إلى صورته القديمة، قبل أن تنال منه حرائق مروعة يوم فض اعتصامي «رابعة العدوية» و«النهضة».

 ثم أتاحت الظروف مؤخراً زيارة ثانية بدعوة أخرى لتصوير شهادة عن «الأستاذ»، عصره ومعاركه، في عين المكان الذي شهد حواراتنا المتصلة على مدى ستة عشر عاماً، من ضمن فيلم تسجيلي أنتجته أسرته يغلب عليه الجانب الإنساني. من المقرر أن تعرض نسخة مختصرة في مئويته (23) سبتمبر الحالي، التي يحتضنها متحف الحضارة حيث الإرث المصري القديم بجلال أثره.

 بمناسبة المئوية أنتجت محطة «الوثائقية» المصرية فيلماً وثائقياً آخر من ثلاثة أجزاء، عن تجربة وإرث محمد حسنين هيكل. في ذلك الفيلم الوثائقي المطول تحدثت شخصيات دولية وعربية ومصرية، أبرزها أندرو نايت أحد أبرز الصحفيين البريطانيين في العصر الحديث، الذي ترأس مجلة «الإيكونوميست» الاقتصادية الشهيرة قبل أن يترأس بفضل صيته في الإدارة الصحفية مجموعة صحف «التايمز»، والأخضر الإبراهيمي، وزير الخارجية الجزائري الأشهر.

في الفيلمين التسجيليين تحدثت لأول مرة السيدة قرينته هدايت تيمور، عن تجربتها الإنسانية، قصة زواجهما والأيام الصعبة والحلوة معاً.

 بقدر ما هو ممكن، ساهمت بالاقتراح والمشاركة المباشرة بأمل إضاءة بعض الجوانب المجهولة في سيرة «صحفي القرن». بعد عشر سنوات من حرائق برقاش، تجولت الكاميرات في المكان وسجلت بعض آثار الجريمة التاريخية رغم الإصلاحات التي جرت.

 اكتسب ذلك البيت الريفي قوته الرمزية من شخصية صاحبه، ومن اجتماعاته التي ضمت على امتداد العقود شخصيات دولية وإقليمية ومصرية رفيعة ومؤثرة، ومن الحملات المتصلة عليه.

 فيما نُسب للرئيس الأسبق حسني مبارك، تعليقاً على الأجواء التي كانت تحيط هيكل: «لم يعد ينقصه إلا أن يضع علماً خلفه، وهو يتحدث أمام الشاشات، أو يستضيف اجتماعات في برقاش».

 قبل فض الاعتصامين، حيث كان موجوداً في سردينيا الإيطالية، وصلته أنباء عن حملة تحريض تستعدي بقوائم سوداء ضمت اسمه وكلام عن أدوار قام بها، أو وساطات تولاها بين الفرقاء، بينما كان بعيداً يقضي إجازته الصيفية.

 سألته فيما يشبه الإلحاح، أن يتمهل بعض الوقت قبل الوصول إلى القاهرة ويدير دفة عودته إلى اتجاه آخر عند الساحل الشمالي بالقرب من الإسكندرية.. ف«عند انفلات الأعصاب لا أحد بوسعه أن يتوقع ما قد يحدث».

 كعادته، أخذ وقته في التفكير قبل أن يستقر قراره على أنه من الأوفق أن يكون قريباً من الأحداث، يتابعها من الساحل الشمالي بعيداً عن العاصمة وكمائن الخطر فيها.

في ظهيرة الأربعاء أغسطس 2013 ، اقتحمت مجموعات مسلحة الباب الرئيسي لبيت برقاش، الذي لا يوجد عليه ما يشير إلى صاحبه، بعد أن أحرقت بزجاجات المولوتوف حديقته الأمامية.

 أخذت تدمر كل ما فيه من أثاث ولوحات وذكريات، أحرقت حدائقه بأشجارها ونباتاتها، واستحال البيت أطلالاً تساقطت جدرانه بتفجيرات أنابيب غاز. لم يكن في علم الذين خططوا، لإلحاق الأذى المادي والمعنوي بصاحب البيت أن الخسائر أفدح مما تصوروا.

 بعد الحرائق بأيام، أرسل فريقاً صوّر كل شيء تهدّم وخرب، وكانت الصور مفزعة، غير أنها لم تعكس حجم الخسارة الفادحة التي تتجاوز الرجل إلى الذاكرة العامة.

 من بين ما راح، مجموعات الوثائق الدولية والإقليمية حول مصر وتاريخها المعاصر مرتبة بطريقة علمية، لكل وثيقة موقعها وموضوعها، نشر أغلبها في كتبه، أو استخدمها في سياقات ما روى.

 الكتب والرسائل والأوراق النادرة التي أفلتت من الحرائق أودعت في مكتبة الإسكندرية.

 لم يكن يعرف أحد أين وثائق هيكل، حيث أحاط سره وراء ستائر كثيفة من الكتمان، باستثناء عدد محدود للغاية بمقتضى الحاجة إلى أدوارهم، أبرزهم سيدة تعمل في مكتبه شبه مجهولة لمن يترددون عليه.

 ذات يوم أوشك أن يبيح لي بسر الأسرار في حياته. قاطعني مبتسماً وأنا أتحدث عن مأمن وثائقه في لندن قائلا: «ليست في لندن».. «هذا كلام شائع لكنه ليس صحيحاً»، «أريدك أن تتأكد أنت بالذات من أنها ليست في لندن».  كانت تلك نصف مصارحة لم يستكمل نصفها الآخر، ربما جال في خاطره لحظتها بيت شعر قديم يحفظه ويستعيد حكمته دوماً: «إذا ضاق صدر المرء عن سر نفسه.. فصدر الذي يستودع السر أضيق».

 خامرتنى ظنون أنها قد تكون في مأمن أوروبي آخر، حتى اكتشفت في الزيارة الأولى لبرقاش بعد رحيله ما لم يخطر ببال أحد، أنه كان يحفظها هنا طوال الوقت، لم تتحرك كتلتها الرئيسية يوماً من موضعها في «بيت الورد»، الأقرب أن يكون كوخاً سويسرياً حتى جرى النيل منها.. يقال عادة «إن الحذر لا يمنع قدر».

 كانت تلك قمة المأساة في قصة «بيت برقاش»، الذي كان يوصف يوماً ب«العاصمة الموازية».

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/5xccdmff

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"