هل الاقتصاد الأمريكي اقتصاد سوق مفتوح؟

22:12 مساء
قراءة 3 دقائق

د. محمد الصياد*

تذهب السردية المسيطرة في الإعلام الأمريكي السائد، إلى أن الاقتصاد الأمريكي هو اقتصاد سوق حر ومفتوح. وإذا طبقنا الأساس النظري للرأسمالية الخام، كما أسس لقاعدتها الأساسية (دعه يعمل دعه يمر) آدم سميث، التي تقول بأن السوق ونظام العمل فيه، يعد حراً في حال كانت سيطرة الحكومة عليه في حدها الأدنى، سنجد أن اقتصاد الولايات المتحدة ليس اقتصاداً مختلَطاً بين الحر والموجه، كما أراد له واضعو الدستور الأمريكي في مادته الخامسة (Fifth Amendment)، التي تشير إلى جمعه بين حماية ملكية الممتلكات الخاصة والحد من تدخل الحكومة في العمليات التجارية، من جهة، واستخدام جوانب من الاقتصاد الموجه من أجل الصالح العام وتعزيز الرفاهية العامة. فوظيفة التوجيه الحكومي للاقتصاد تكاد تقتصر على جوانب محدودة من استحقاقات التقاعد والرعاية الطبية.

فالقسم الأعظم من الاقتصاد، تسيطر عليه قوى رأسمالية كبرى يُطلِق عليها الأمريكيون مسميات مختلفة، لكن أحد أكثرها شيوعاً اسم رأسمالية الشركات «Corporate capitalism» ذات النفوذ الطاغي داخل أجهزة ومؤسسات الدولة، بحيث يجري تسخير عملها وتجيير وظائفها لصالح الشركات والمصارف الكبرى. ففي النظام المالي مثلاً، يتحكم مجلس الاحتياطي الفيدرالي في أسعار الفائدة، مع أن التفويض «Mandate» الممنوح له في الأصل، حين أُنشئ في 23 ديسمبر 1913، لم يكن يتضمن هذا الامتياز الحصري. فيستخدم بضعة أفراد في البنك المركزي الأمريكي (مجلس الاحتياطي الفيدرالي) سعر الفائدة لتحديد أو تثبيث قيمة الدولار بدلاً من قيام السوق بهذه الوظيفة (بحسب ممارسات اقتصاد السوق). كما يقوم بتخليق الأموال من لا شيء (من طباعة الدولار بدون سقف) تحت مسمى التيسير الكمي «Quantitative Easing – QE»، فيختار، عملياً، الفائز والخاسر من هذه العملية في «السوق الحرة».

أيضاً، جميع الشركات العامة (Public Shareholding Companies) الأمريكية، مترابطة. هي ليست شركات فردية تتخذ قراراتها بصورة مستقلة. إنها مندمجة ضمن توليفة تشكّل أكبر احتكار في العالم. ويمكن التثبت من ذلك من خلال إلقاء نظرة على أكبر المساهمين في أي شركة أمريكية كبرى، مثل «Google»، و«Walmart»، و«Bank of America»، و«Comcast» (أكبر تكتل أمريكي عابر للجنسية للاتصالات السلكية واللاسلكية ووسائل الإعلام)، و«Apple»، وغيرها. إذ ستجد أن الأسماء نفسها في قائمة كبار المساهمين تتكرر في جميع هذه الشركات. فشركات مثل «BlackRock, Inc» (شركة استثمار أمريكية عابرة للجنسية وأكبر مدير للأصول في العالم قُدِّرت حتى 31 ديسمبر 2022، بنحو 8.59 تريليون دولار)، وشركة «Vanguard Group, Inc» (شركة استشارات استثمارية أمريكية مقرها مالفيرن، بنسلفانيا، تدير حتى إبريل 2023، قرابة 7.7 تريليون دولار من الأصول العالمية، وهي أيضاً أكبر مزود للصناديق المشتركة وثاني أكبر مزود للصرافة المتداولة في العالم بعد شركة «iShares» التابعة لشركة بلاك روك نفسها)، وشركة «Fidelity Investments» أو «Fidelity» (شركة خدمات مالية أمريكية عابرة للجنسية مقرها بوسطن، ماساتشوستس)، تتحكم عملياً في جميع الشركات الكبرى. ومن يسيطر على هذه الشركات المالية العملاقة، يسيطر بصورة مناقضة لصيغة الاقتصاد المختلط الواردة، لا على التعيين في المادة الخامسة من الدستور الأمريكي، ومناقضة لسردية الاقتصاد الحر المفتوح على المنافسة المتكافئة، على كافة مفاتيح الاقتصاد. فالمساهم الأول في «Vanguard» هو «Blackrock»، والمساهم الأول في بلاك روك هو فانغارد، وهكذا دواليك.

حتى سردية العولمة تصبح والحال هذه، عولمة متناهية الصغر، لا تعدو أن تكون حلقة ضيقة من العائلات التريليونية الأمريكية والأوروبية التي تتحكم في كل شيء، من الإنتاج إلى التوزيع، ومن الخدمات المالية الكبرى إلى مخازن البيع بالجملة، ومن المنتجات الثقافية، السمعية والبصرية والمقروءة، إلى كافة وسائط الميديا.

فتضحى العولمة بهذا المعنى الحقيقي، عبارة عن حفنة من الشركات التي ترتبط ببعضها من خلال حلقة مجالس إداراتها التي يتبادل أعضاؤها كراسيها. فتجد شخصاً من إحدى هذه الشركات يجلس على 4 أو 5 مقاعد لمجالس إدارات هذه الشركات المنتمية إلى قطاعات وأنشطة اقتصادية مختلفة، جنباً إلى جنب مع بعض ممثلي الأجهزة الأمنية السرية والدولة العميقة. وجميع هؤلاء يجلسون في اجتماعات مجالس إدارات هذه الشركات وهم مطمئنون إلى سير عملية تصنيع الربح، لأنهم يتحكمون ببساطة في طريقة وتوقيت استخدام أدوات السياستين النقدية والمالية، يظللهم بحمايته ورعايته، صاحب المقام الأعظم، الدولار.

*خبير بحريني في العلاقات الاقتصادية الدولية

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/249dzyva

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"