عادي
قرأت لك

«لا عزاء لقطط البيوت».. كتابة تحتفي بالجمال والمعنى

23:59 مساء
قراءة 4 دقائق
عائشة الكعبي

الشارقة: علاء الدين محمود

كتاب «لا عزاء لقطط البيوت»، للكاتبة عائشة الكعبي، صدر في طبعته الأولى عام 2011، عن دار أزمنة الأردنية؛ هو عبارة عن مجموعة قصصية، ويعد من الإصدارات المهمة؛ كونه يطرق باباً قصصياً صار مهيمناً في الفترة الأخيرة؛ وهو القصة القصيرة جداً، وعبر الاختزال والتكثيف المدهش، فإن الكاتبة تستعرض في كتابها عوالم متنوعة، وتشيّد الصور والمشهديات العميقة، وتتجول برؤى فكرية وفلسفية في قلب تلك النصوص الحرة والطليقة، كما تغوص عميقاً في المجتمعات العربية، وتسلط الضوء على عوالم وثقافات مختلفة.

في هذا الكتاب، تتحدث عائشة الكعبي عن الفرد في العصر الحديث؛ ذلك المتشظي والمتكسر؛ حيث يهيم الأفراد وحيدين وغريبين، في وقت قل فيه التواصل، ويكاد أن يتلاشى شيئاً فشيئاً، بينما تسيطر على الناس ثقافة الاستهلاك في أزمنة العولمة؛ حيث الأنانية المفرطة والوحدة والعزلة والغربة، كما يتناول الكتاب وضع المرأة اليوم، ويعقد محاكمة ثقافية ضد العادات الضارة والتقاليد العقيمة، بينما يحتفي بالصفات الإنسانية الحميدة، في كل مكان، ويسعى إلى أن تسود قيم المحبة والخير والحب والجمال.

ولعل أكثر ما يلفت نظر القارئ في هذه المجموعة، تلك اللغة الأدبية الشاعرية التي تعطر النصوص، وتحرض المتلقي على القراءة، وكذلك السخرية التي تشكل كوميديا داكنة، ترسم صوراً كاريكاتورية لأشخاص ومشاهد ووقائع وآراء، كما أن القصص نفسها محتشدة بالأسئلة التي تشرك القارئ وتدعوه إلى الدخول في حالة من التأمل في الوجود وفي الإنسان ومصير العالم، فتلك النصوص المختزلة حملت العديد من القضايا، وقالت الكثير عنها في كلمات قليلة جداً، وقد وجدت المجموعة صدى كبيراً عند القارئ الإماراتي والعربي، وكذلك لدى النقاد والأدباء؛ حيث حصل الكتاب في العام الذي صدر فيه، في 2011 على جائزة المرأة الإماراتية للآداب، قسم القصة القصيرة؛ وذلك يؤكد أهمية المجموعة والقضايا التي تطرحها، والأسلوبية الجيدة للكاتبة التي تمكنت من اختصار عوالم كاملة في هذه القصص القصيرة جداً، بأسلوبية شاعرية وموسيقية تحتفي بالجمال.

جاء الكتاب في 85 صفحة من الحجم الصغير، ويضم 57 قصة، أو أقصوصة، أو ذلك النمط الأدبي القصصي المعروف باسم «الومضة»؛ وهي المجموعة القصصية الثانية للكاتبة؛ حيث سبقتها مجموعة «غرفة القياس»، وصدرت في عام 2007، لتأتي «لا عزاء لقطط البيوت»، استكمالاً للأفكار التي طرحتها الكاتبة في مؤلفها الأول، لكن بأسلوبية جديدة، وبرؤى مختلفة، فقد تطورت الكاتبة كثيراً وتمكنت من أدوات الكتابة بفعل ما اكتسبته من خبرة، وفي تلك النصوص القصيرة جداً، تحضر أفكار كبيرة جداً، وعلى القارئ أن يكون في حالة استعداد دائم، لفهم الرموز والدلالات التي تحيل إلى عوالم مدهشة وبديعة، وفي القصص تحضر شخصيات تبحث عن الخلاص والحرية، وأخرى منهمكة مع الواقع المتغير والمتقلب، وتحاول أن تفهمه، وهناك شخصيات تسعى إلى الإفلات من أشكال الهيمنة التي تمارس عليها، وهنالك الفئات التي تعاني التهميش الاجتماعي، وكل هذه الشخصيات تشكل حضوراً مميزاً في تلك القصص.

ولعل من الأشياء اللافتة في قصص المجموعة، تلك القدرة على التقاط الأشياء والتفاصيل الصغيرة التي لا ترى، لترفع الكاتبة من شأنها، وتعمق حضورها في السرد القصصي، وكذلك جنوح المؤلفة نحو إظهار المفارقات والتناقض بروح نقدية، خاصة فيما له صلة بالقضايا الاجتماعية، وربما من الأشياء التي ستلفت نظر القارئ تلك العناوين المدهشة التي تتخيرها الكاتبة بطريقة تعبر أحياناً عن روح النص، فيما تراوغه في أحايين أخرى مثل: «لا عزاء لقطط البيوت»، و«قطط قديرة جداً»، و«انفصال»، و«هكذا هوت النخبة»، و«مفاجعة»، و«محاولة اختراق»، و«عادة»، و«الطفل العميق».

قطط البيوت

عنوان المجموعة «لا عزاء لقطط البيوت»، مأخوذ من إحدى أقصوصات الكتاب، وتحضر فيه بصورة أساسية قضية المرأة والصراع بين الزوج والزوجة، خاصة أن الرجل في الحكاية هو صنيعة الأفكار التقليدية التي تحرضه على الهيمنة، وهذا الخيط نجده ناظماً لمعظم تلك النصوص التي هي عبارة عن ومضات، وعلى الرغم من أن فكرة الومضة تفصح عن القليل جداً، بصورة تلمع في ذهن القارئ، وتدعوه إلى التأمل والتفكير، فإن الصورة، الأشمل رغم الاختزال والتكثيف، تبدو مكتملة في نصوص عائشة الكعبي، فهي تتوجه في كتابتها على الرغم من الاحتفاء بالجماليات واللغة الشعرية، نحو المعنى؛ المعنى بطريقة مؤثرة؛ بحيث يتوقف عنده القارئ طويلاً، ومن الواضح أن لدى الكاتبة قضية تحرض على طرحها بشدة، وعلى إشراك المتلقي في تفاصيلها وتفاعلاتها، ولئن كانت قصة «لا عزاء لقطط البيوت»، قد جاءت بثيمة الصراع، فإن تلك الثيمة تظل في بقية النصوص، كما أن فكرة التضاد والتناقض، والأنا والآخر، تكاد تكون مسيطرة بصورة كبيرة على الكاتبة في هذه المجموعة.

صراع

هنالك أشكال وأنواع عديدة للصراع، وهو ما تحاول الكاتبة أن تبرزه في النصوص، مثل: الخير والشر، القيم البالية والأخرى المختلفة، الفرد والجماعة، الهيمنة والحرية.. وهكذا، والكاتبة لا تميل نحو توظيف الأفكار السائدة والمعلبة؛ بل تحاول دائماً أن تحلل الظواهر والشخصيات بطريقة تفكيكية؛ حيث تعمل على الإحاطة بكل العوامل المؤثرة في الشخصيات، فالرجل في أقصوصات عائشة الكعبي وومضاتها ليس ظالماً أو مسيطراً على الدوام، ففي بعض الأحيان يبرز مهمشاً ويعاني الظلم، وهكذا يلاحظ القارئ تلك المقدرة على تعميق فكرة المفارقة في المجتمع وما يجري فيه، والمؤلفة ترصد الظواهر الاجتماعية بعين فاحصة وحساسة، ففي بعض الأحيان يخيل إليك أن الكاتبة تطل عبر نافذة بيتها نحو الشارع، وتستقي حكايتها من المارة، وفي أخرى تظن أنها هي نفسها من تتجول وسط بشر يسيرون منفصلين عن بعضهم، وفي كل ذلك هي الكاتبة المبدعة التي تستطيع بمهارة فائقة تحويل أي حدث حتى لو كان عادياً مثل أطفال يلعبون في الطريق، إلى قصة تحمل الكثير من الدلالات، فالكاتبة لا تتوقف عند محيطها ومجتمعها فقط؛ بل تذهب نحو ثقافات أخرى، وتحاور الإنسان وهمومه ومشاغله في مجتمعات مختلفة، لتطرز من نسيج هذا التطواف، ثوباً قصصياً يحتفي بالجمال والفكرة معاً.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/y2dxjczy

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"