عادي
عقبات تعترض مستقبل الشعر

سلم القصيدة الصعب

22:11 مساء
قراءة 6 دقائق

القاهرة: وهيب الخطيب

هناك كثير من العقبات التي تعترض مستقبل الشعر، منها ما يتعلق بالتعليم، فنحن لا نعرف مستوى الشعر الذي يدرّس في مراحل التعليم المختلفة، وهل تحث المناهج على حب الشعر أم لا؟ ومنها ما يرتبط بتراجع النقد وتوجه كثير من الشعراء إلى كتابة الرواية، ومنها نضوب بعض الشعراء وجفافهم وابتعادهم عن الساحة، وهناك رفض دور النشر لطباعة دواوين الشعر، ورحيل كثير من كبار الشعراء خلال العقود القليلة الماضية، ودخول الذكاء الاصطناعي على الساحة الأدبية.. كثير من العقبات باتت في طريق الشعر، ويكفي أن تكون الساحة الثقافية مهجوسة بالسرد على مستويات عدة، لندرك مأزق الشعر المعاصر. وفي هذا الملف من «الخليج الثقافي» نلقي بالضوء على أبرز هذه العقبات التي تواجه فن العرب الأول.

ينسب إلى الشاعر «المخضرم» الحطيئة قول «فَالشِعرُ صَعبٌ وَطَويلٌ سُلَّمُه، إِذا ارتَقى فيه الذي لا يَعلَمُه»، وهو البيت الذي يستشهد به بعض الكتّاب والنقاد على صعوبة التمرس في الكتابة الشعرية، لكن يبدو أنه من الممكن حالياً أن نستعين به للإشارة إلى التحديات والمعوقات التي تواجه مستقبل الشعرية، لا في العالم العربي فحسب، إنّما في العالم.

كلما حلّ الحديث عن مستقبل الشِعر، أو آفاق الشعرية الحديثة، وردت مفاهيم ومقولات مثل التحديات والصعوبة، ليصبح السؤال عن المقصود ب «الصعوبة» في الفن عموماً، والأدب بخاصة، ولماذا نختار تلك الكلمات بدلاً من معظم البدائل الأخرى، سؤالًا مشروعاً. بالطبع ثمة مفاهيم أخرى ترد عند الحديث عن الشعر بصفة عامة، كالغموض والتعقيد، وهو ما تعامل معه النقاد خلال العقود الثلاثة الأخيرة بطرق شتّى ومختلفة.

ولو لاحظنا أن هذه المفاهيم جميعها تتعلق بعملية تلقي الشعر، فالصعوبات التي تواجه الشعرية وتحدياتها، تتمحور في علاقة القصيدة بقارئها، وهو ما دفع المفكر الأمريكي الفرنسي جورج شتاينر إلى كتابة مقاله الشهير On Difficulty، والذي من خلاله حدد ببراعة «بعض أنماط الصعوبة الأساسية التي يتلقى بها المرء الشعر، ولا سيما في الشعر الغربي منذ عصر النهضة»، وتقدم رؤية شتاينر «مقاومة للفورية والفهم»؛ جنباً إلى جنب مع «عدم القابلية للاختراق وعدم القدرة على تقرير المشاعر والأحاسيس».

تحدي الرحلة

التحدي الأكبر والأقدم الذي يواجه الشعرية، هو السؤال الأزلي عن ماهية الشعر ودوره، وهو المضمار الذي كتبت فيه مئات الكتب «بحثاً عن الشعر» بتعبير الشاعر الراحل رفعت سلام، أو بقول الشاعر المجري المولد جورج سزيرتس، والذي يدرس الشعر في جامعة إيست أنجليا، «إن القصائد تحاول تصوير حقيقة أعمق من اللغة إنك تحاول أن تقول: أعرف ما يسمى هذا الشيء». مثلًا «إنه يسمى كرسياً، وهذا الشيء عبارة عن طاولة. لديّ كلمة كرسي ولديّ هذه الكلمة طاولة، لكن هناك شيء غريب حول هذا الكرسي عندما أحاول أن أوظفه في تجربة إبداعية»، وهو ما يحاول أن يفعله الشعر.

ومن ثم يصبح دور الشاعر هو بناء الرحلة، وهو تحد كتابي، فالقراء، بحسب سزيرتس، قد يتسابقون عبر الروايات لأنهم يريدون معرفة ما يحدث، لكن عليهم أن يتطلعوا إلى العيش في القصائد؛ «لا أحد يقرأ قصيدة لمعرفة ما يحدث في السطر الأخير. إنهم يقرؤون القصيدة لتجربة السفر خلالها».

خوف

في سياق آخر، تثير طبيعة الشعر المفتوحة وغير المستقرة قلق العديد من القراء، هنا تشير الشاعرة الأمريكية وواحدة من الأعضاء المؤسسين لجوقة آنا كروسيس النسائية جوديث بالمر، إلى أن تحدياً آخر يواجه الشعرية، وهو «حضور الشعر في المناهج التعليمية»، أي أنه لم يجر تدريس الشعر بشكل جيد في المدارس لفترة طويلة، ولم يُسمح للمدرسين بتجربة الأشياء بحرية. لذا فبدلاً من النظر إلى القصيدة والقول «ألا تعجبك هذه الكلمات؟»، أو«ألا تجعلك تفكر في أفكار مثيرة للاهتمام؟ يقولون للطلاب، أين التشبيه والمشبه به هنا؟»

والواقع أن معرفة المعلمين والطلاب بالشعراء «متدنية»، وهي شكوى يبثها شعراء الأرض من ثقافات مختلفة، إذ تخرج المناهج التعليمية في بلدان عدّة مواطنين «خائفين من الشعر، ينظرون إلى قصيدة ويسألون: هل هذا صحيح؟»، كما لو كان الأمر لغزاً يمكنك حله، لكن الشعر غامض ومتعدد الطبقات.

عصر الرواية

منذ أن أطلق المفكر العراقي محسن الموسوي مقولته «عصر الرواية»، ومن بعده الناقد المصري جابر عصفور «زمن الرواية»، وبدا الحديث عن مستقبل الشعر «محصوراً» في علاقته بالسرد، ومقارنة حالهما، وكأنه لابد من وجود بنية التراتب الهرمي الهيراركي، وواحدية النوع المسيطر على غيره من الأنواع.

ويبدو أن المسألة ليست عربية فحسب، ففي الكتابات الغربية شيء من «المقارنة»، ففي دراسة بعنوان «الصعوبة والشعر الحديث» للباحث في كلية جزيرة ستاتن بجامعة نيويورك ستيفن مونتي، نقرأ اعتاد النثر أن يكون الشكل «الأدنى» من الأدب في عصور تاريخية سابقة، وكان الشعر يعتبر ما يجب أن ينتجه أي كاتب جاداً. ثم تغيرت الأمور على مر السنين، وخلق النثر فضاءه الخاص.

وفي الوقت الذي يقر فيه مونتي بأن النثر الجيد جذاب ويستحق وقت المؤلف الجاد. فإنه يستدرك بأن الأمور تغيرت وولت الأوقات التي كنا نعني فيها بكلمة «نثر» رواية كاملة الطول بشخصيات واقعية وعميقة ومؤامرة تصنع المعنى، الآن نرى مؤامرات فوضوية لا معنى لها ومهارة قليلة في سرد القصص. والأسوأ من ذلك، أننا نرى كيف أن ما يرتفع إلى القمة ليس هو الأفضل في كثير من الأحيان ولكنه في الواقع الأعلى صوتاً.

ومع هذه الشكوى من «الفوضى الروائية»، فثمة تحول واضح في اتجاه الشعراء لكتابة الرواية ونشرها، وهو التحول الذي سُمّي بمسميات عدّة ك «هجرة الشعراء»، أو «هروب الشعراء»، و«الهرولة»، وهي مسميات تفيد بدلالات سلبية على عالم الشعر، وتشير بشيء من خسارة القصيدة سواء بهجر أو هروب كُتّابها.

أزمة النقد

وبعيداً عن الشعر وحده، ثمة تحدٍ يواجه الكتابات الأدبية، وهو تراجع النقد، أو ما يعرف بأزمة النقد الأدبي، وهناك أزمة في الكتابة النقدية، سطحية ومدرسية في أغلبها، لكن هي جزء من الأزمة التي نعيشها على مستويات عدة، سياسية واقتصادية وثقافية إبداعية، هي جزء من الكل وليست الأزمة في كليتها. فالمؤسسة الأكاديمية بدورها تتحمل جزءاً من المسؤولية التي نعيشها، فهي غالباً تُخرج باحثين بوعي مسطح وعدم معرفة بالسياقات الثقافية المنتجة للمعرفة النقدية. والصحافة أيضاً تتحمل جزءاً، فغالباً تُصدر أنصاف المتعلمين والسطحيين.

غياب رقمي

وخلال السنوات الأخيرة، تعقدت علاقتنا بالتكنولوجيا الرقمية على نحو مطرد، إلى أن أصبح الشخص لا يغادر المنزل من دون هاتفه الذكي أو الأجهزة اللوحية أو الكمبيوتر المحمول، في اتصال ينتج علاقة فريدة بين الفرد والجهاز، الإنسان والآلة، والأخيرة لم تعد مجرد أداة لتنفيذ مهمة واحدة أو إجراء وحيد، وإنما أصبحت امتداداً لشخصيتنا مما يمكننا من الاستجابة لمتطلبات المجتمع الحالية، وبطريقة ماكرة جداً، أصبحت التكنولوجيا متشابكة في حياتنا اليومية وحياتنا الجسدية؛ بحيث أصبح من الصعب جداً التمييز بين الحياتين، هنا دون وعي منا نقدم التكنولوجيا في حديثنا كما لو كانت لديها قوة إرادتها الخاصة.

وفي ظل هذا التعقيد والتشابك، ثمة من يتحدث عن العواطف التكنولوجية، وهي إضفاء السمات الإنسانية على المخترعات التكنولوجية، الأمر الذي يفتح باب مخاوف المفكرين والفلاسفة على مستقبل العواطف الإنسانية، وطبيعتها الخاصة التي لا يمكن قياسها أو تأطيرها آلياً، وهو ما يدفع إلى سؤال خاص بتحدي الكتابة الشعرية في زمن التكنولوجيا، وقدرتها على التعبير عن العواطف والمشاعر.

وفي هذا الإطار، تغيب الشعرية التي تحفل بالعواطف الملتهبة والمشاعر الجياشة وخلجات قلب محروم، هي التي ترى في الحب ضرورة حياتية لا غنى عنها من منطلق «الحب في الأرض، بعض من تخيلنا لو لم نجده عليها؛ لاخترعناه».

تميز

وفي ظل هذه الرؤى التي تتناول «تحديات مستقبل القصيدة»، ثمة من يرى أن مستقبل الشعر «هائل»، وكبير؛ إذ يؤمن أصحاب هذه النزعة أن الشعرية تستحق مصائرها العظيمة، خاصة أن السعي الأول للشعر في نظرهم «ربط العواطف بالحقيقة»، وفي الوقت الذي يتراجع مفهوم الحقيقة في عالم يضج بالأطياف والأوهام، لا الأكاذيب، حتّى باتت الحقيقة مفترضة؛ لكن بالنسبة للشعر، الفكرة هي كل شيء، والباقي هو عالم الوهم تربطه القصيدة عاطفياً، هنا يبرز دور القصيدة الساعية إلى الحرية المطلقة في الكشف والاستشراف، أي أن تكون القصيدة كشفاً عمّا لم نره ولم نتحسسه من قبلها، ووسيلتها هنا انعتاق اللغة بما لا ينطقها غيره.

اقرأ أيضاً

ديوان العرب سيظل صياد القلوب

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/mww3wed9

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"