الاقتصاد السلوكي

21:15 مساء
قراءة 3 دقائق

د. محمد الصياد *

درج الاقتصاديون في جميع أنحاء العالم على تركيز اهتمامهم وتوجيه اهتمام الناس، لاسيما المعنيين منهم بمتابعة الشؤون اليومية لاقتصادات بلدانهم والاقتصاد العالمي ككل، نحو المؤشرات الكمية والنوعية لأداء الاقتصاد الكلي والاقتصاد الجزئي، في بلدانهم وفي بقية بلدان العالم. ولذلك فإن قراءاتهم وتحليلاتهم وتنبؤاتهم الاقتصادية، مبنية على هذه وغيرها من المؤشرات القياسية الكمية التي يُدخلونها في نماذجهم، والتي يحاولون من خلالها الإجابة عن أسئلة المستقبل بمدياته المختلفة بشأن اتجاه الدورة الاقتصادية.

ولكن مع مطلع الألفية الثالثة، طرأ تبدل ملموس على الفكر الاقتصادي العالمي، حيث بدأ اهتمام الاقتصاديين بدراسة سلوكيات الأفراد، باعتبارهم من العناصر الرئيسية المساهمة في نمو إجمالي الناتج المحلي الذي تمثله فيه دالّة الاستهلاك (C)، وتأثيرها (سلوكيات الأفراد) في اتجاهات قوى السوق، مداً وجزراً، وذلك في إعادة اعتبار قوية للاقتصاد السلوكي في علم الاقتصاد. والاقتصاد السلوكي هو علم فرعي في الاقتصاد يُعنى بدراسة تأثير الجوانب النفسية، والمعرفية، والعاطفية، والثقافية، والاجتماعية، في القرارات الاقتصادية للأفراد والمؤسسات، وكيف تختلف تلك القرارات عن تلك التي تنطوي عليها النظرية الكلاسيكية. أي إنه يهتم بحدود عقلانية العوامل الاقتصادية. فتقوم النماذج السلوكية، بموجبه، عادة، بالمزج بين نظريات علم النفس وعلم الأعصاب ونظريات علم الاقتصاد الجزئي. في عام 2013 حصل الاقتصادي الأمريكي روبرت جيمس شيلر مع لارس بيتر و يوجين فاما على جائزة نوبل في العلوم الاقتصادية «لتحليلهم الامبريقي (الرياضي) لأسعار الأصول». وكان انهيار أسواق المال في عام 1987، قد أكسب مذهب التمويل السلوكي، مزيداً من المصداقية، وأكد صحة فرضيات روبرت شيلر من أن المشاعر كثيراً ما شكلت محركات لقرارات الاستثمار والاستهلاك بدلاً من الحسابات العقلانية. وفي عام 2017، أعلنت الأكاديمية الملكية السويدية للعلوم عن فوز الخبير الاقتصادي الأمريكي ريتشارد ثالر بجائزة نوبل للعلوم الاقتصادية لعام 2017، بناءً على إسهاماته في مجال الاقتصاد السلوكي، وذلك من خلال قيامه بدمج الافتراضات الواقعية النفسية مع التحليلات المتعلقة بصنع القرار الاقتصادي، وإقدامه على خطوة جريئة في تنظيره الاقتصادي السلوكي، لحد الجزم بأن الناس غير عقلاء على النحو المتوقع، بما يصطدم مع منظري الكلاسيكية الجديدة الذين يفترضون أن الناس والسوق سواسية في العقلانية السلوكية. في حين أن أحد أهم اكتشافات «علم الاقتصاد السلوكي» (Behavioral Economics)، يتمثل في دراسة اللاعقلانية السلوكية للأفراد في علاقتهم بالسلع المادية والخدمية.

والحال، أن الأزمة المالية/الاقتصادية العالمية، التي انفجرت فقاعاتها تباعا في عام 2008، ابتداءً بسوق العقار الثانوي (سوق الرهون العقارية)، وأسواق المال المرتبطة بها (لجهة أكوام المشتقات Derivatives، والمنتجات المالية الأخرى التي ابتدعتها المؤسسات المصرفية والمالية الأمريكية وتبعتها نظيرتها الأوروبية)، هي التي أملت على أوساط معشر الاقتصاديين، في الولايات المتحدة خصوصاً، مراجعة مواقفها من الاقتصاد السلوكي، بعد أن فرض نفسه بتزكيته النسبية لمذهب أولئك الاقتصاديين (الكينزيين خصوصا) الذين ظلوا يشككون في عقلانية ورشد سلوك الأفراد والأسواق ترتيباً. يقال إنه عندما تلقى البروفيسور ريتشارد ثالر من جامعة شيكاغو خبر فوزه بجائزة نوبل التذكارية في العلوم الاقتصادية نظير مساهماته في الاقتصاد السلوكي، فإنه واجه الصحافة المتلهفة لسماع رأيه، بابتسامة عريضة. وقيل يومها إنه ربما كان يضحك في النهاية على الاقتصاديين المهووسين بالمعادلات الإمبريقية التجريبية، والتي تحدت هيمنتها، التي طالت، على علم الاقتصاد، أعداداً متزايدة من علماء الاقتصاد السلوكيين. في تحويله لتيار التفكير الاقتصادي، يقوم ثالر وأصدقاؤه بتصحيح أسطورة المستهلك المتعطش «homo economicus» (النوع الانساني الذي يتمتع بكامل القدرة والإدراك على التصرف واتخاذ القرارات الرشيدة) لتحقيق منفعته القصوى. لقد كان صراعاً بين الاقتصاديين الإمبريقيين لمدرسة شيكاغو وهؤلاء الاقتصاديين (السلوكيين) الذين لطالما تعرضوا طيلة ما يقرب من ثلاثة عقود للسخرية والتهكم من جانب الاقتصاديين الإمبريقيين (الرياضيين) التابعين لهذه المدرسة الاقتصادية المهيمنة على التيار الرئيسي في الفكر الاقتصادي الأمريكي والأوروبي كذلك، قبل أن يبدأ الناس بالتشكيك في نظريات السلوك الاستهلاكي الرشيد والعقلاني لأنصار المدرسة.

وبحسب الصحافة الاقتصادية المتخصصة في الولايات المتحدة، فإن منح ريتشارد ثالر جائزة نوبل التذكارية في مجال العلوم الاقتصادية (نظير قيامه بالمزاوجة بين علم الاقتصاد وعلم النفس)، قد أصاب اقتصاديي مدرسة شيكاغو بالخيبة، لأنه تعين عليهم أن يواجهوا الواقع على حقيقته وأن يتوقفوا عن تزيينه في أعين الشركات والمؤسسات التي تدفع لهم مقابل استشاراتهم التي تعتمد أساساً على حملات الترويج والتسويق الكاسحة لوعي ومزاج المستهلك، كهدف يريدون منه اثبات صحة مذهبهم.

* كاتب بحريني

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/3fvye38f

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"