عادي

مراسم الوداع بين سارتر وسيمون دي بوفوار

23:31 مساء
قراءة 4 دقائق

القاهرة: «الخليج»

استمرت علاقة سيمون دي بوفوار وسارتر، لما يزيد على نصف قرن، وقيل فيها الكثير، ولا يزال يقال، بل ذهب البعض إلى تجريد سارتر من كونه كاتباً أصلاً، فعلت ذلك مارجريت دورا، واتهمه البعض بأنه متقلب فلسفياً وأدبياً وسياسياً واجتماعياً، لكن هذا لا ينفي أن الاثنين شغلا العالم خلال حياتهما وبعد موتهما.

خصصت سيمون دي بوفوار الجزء الأول من كتابها «مراسم الوداع.. حوارات مع جان بول سارتر» (ترجمه إلى العربية د. قاسم المقداد) للحديث عن السنوات العشر الأخيرة من حياة سارتر، يوماً بيوم، وساعة بساعة، بل أحياناً دقيقة بدقيقة، وكان سارتر آنذاك قد خانه جسده، وإن لم يخنه وضوح الرؤية، والقدرة على أن يكون فاعلاً في السياسة والفلسفة، وإثارة الناس من حوله، سلباً وإيجاباً، وهذا ما يتحدث عنه الكتاب.

وضع سارتر مذهباً في الالتزام يستجيب لتوقعات المثقفين غداة الحرب العالمية الثانية، ولم يعترف بوجود حدود للحرية، ووضوح الوعي، وإعادة النظر في تقاليد فلسفية كان المثقفون يتسمون بها آنذاك، أي وهم الهروب من الحتميات الاجتماعية، وكان ينفر من التكريم، فرفض جائزة نوبل، وأسهمت مجلة «الأزمنة الحديثة» التي أسسها عام 1945 في تعزيز صورته كمثقف ملتزم بأفكاره، وحر في ممارستها.

يطل علينا سارتر «المثقف المكتمل» في هذا الكتاب من دون أقنعة، فتراه يعترف بأخطائه، ويسامح الآخرين على ما اقترفوه بحقه، من إساءات، والفضل في هذا كله يعود إلى محاورته سيمون دي بوفوار التي لازمته أكثر من خمسين عاماً، صديقة ومستشارة في أمور كثيرة لها علاقة بأدبه وفلسفته.

تقول سيمون دي بوفوار: «قال لي سارتر ذات مطلع صيف وكأننا سنفترق لشهر واحد، إذن هي مراسم الوداع؟ فغمرني شعور بمعنى ما ستكون عليه هذه الكلمات ذات يوم استمرت تلك المراسم عشر سنوات» وهي السنوات العشر التي ترويها في هذا الكتاب.

أجرت سيمون دي بوفوار هذه الحوارات في صيف عام 1974 في روما وباريس مع بداية الخريف، كان في بعضِ الأحيان متعباً، فيجيب بشكل غير واضح، أو ربما كما تقول سيمون: «كنت أفتقر إلى الإلهام، فأطرح أسئلة لا معنى لها، حذفت بعض الحوارات التي بدت لي من دون أهمية، أما الأُخرى؛ فجمعتُها بحسب موضوعاتها، وتدرجها الزمني تقريباً، وحاولت أن أضعها في صيغة مقروءة».

تضيف: «ثمة فرق شاسع، بين أقوال جمعت مسجلة في آلة تسجيل، ونصوص مكتوبة بشكل صحيح، لكني لم أحاول كتابتها بالمعنى الأدبي للكلمة، لأني أردت الحفاظ على عفويتها، لذلك سيجد القارئ فيها مقاطع غير مترابطة، وتلكؤاً، وتكراراً، بل وتناقضات أيضاً؛ أبقيتها على حالها لأني خشيت تشويه كلمات سارتر، أو التضحية بإيحاءاتها، إنها لا تضيف إليه كشفاً غير منتظر، لكنها تسمح للقارئ بمتابعة متاهات فكره والاستماع إلى صوته الحي».

لم يكف سارتر طوال حياته عن مراجعة نفسه، من دون أن يتنكر لما كان يسميه «اهتماماته الأيديولوجية» لم يكن يريد أن يصبح متغرباً، ولهذا غالباً ما اختار أن يفكر ضد نفسه، شكلت أحداث عام 1968 التي انخرط فيها، وتركت فيه أثراً عميقاً، فرصة له للقيام بمراجعة جديدة، فقد شعر بأنه كان مرفوضاً بوصفه مثقفاً، ولهذا وجد نفسه خلال السنتين اللاحقتين بصدد إعادة التفكير في دور المثقف وتعديل مفهومه له.

كان سارتر يرى أن المثقف يمزقه التناقض بين عالمية المعرفة وخصوصية الطبقة المهيمنة التي كان أحد منتجاتها، لذلك كان يجسد شقاء الوعي كما يقول هيجل، أما الآن فقد فكر أنه صار من اللازم تجاوز هذه المرحلة فوضع المثقف الكلاسيكي في مقابل المثقف الجديد الذي يرفض في ذاته اللحظة الفكرية لمحاولة العثور على مكانة شعبية المثقف الجديد، يسعى إلى الانصهار في الجماهير لدفع العالمية الحقيقية إلى الانتصار.

مسارات

حاول سارتر اتباع هذا المسار من دون أن يرسمه بوضوح، في خريف عام 1968 اتجه نحو توزيع نشرة سماها «النضالات المتداخلة» وفكر في إصدار صحيفة تخاطب الجماهير، إلا أن هذا المشروع أسسه عام 1970 بعض أتباع فكر ماو تسي تونج، وانطلقت صحيفة «قضية الشعب» التي لم يكن يملكها أحد، وكانت تكتب بطريقة مباشرة من العمال ويقوم المناضلون ببيعها، كان هدفها تقديم فكرة عن النضالات العمالية في فرنسا، وكانت غالباً ما تبدو معادية للمثقفين ولسارتر نفسه.

في مايو 1970 صدر العدد الأول من تلك الصحيفة بعد أن تسلم سارتر إدارتها، وانتصرت على المصادرة، حتى تأسست رابطة باسم «أصدقاء صحيفة الشعب» وبموازاة قيامه بمهامه النضالية أنجز الجزء الثالث من كتابه الكبير حول فلوبير، وكان في عام 1954 قد قال له جارودي: «تعال نحاول معاً تفسير شخصية واحدة فأقوم أنا بدراستها من وجهة نظر ماركسية، وأنت من وجهة نظر وجودية» فاختار سارتر فلوبير بعد أن أساء إليه كثيراً في كتابه «ما الأدب؟».

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/4wun6ddv

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"