«إس-400»والتحول التركي

02:57 صباحا
قراءة 3 دقائق
د.غسان العزي

تركيا، الركيزة الشرقية لحلف الأطلسي منذ عام 1952، أقلقت حلفاءها؛ عندما وقعت، في عام 2017، عقداً بقيمة 2.5 مليار دولار مع روسيا؛ للحصول على منظومة «إس-400» للدفاع الجوي. وحتى قبل أسابيع قليلة من الشهر المنصرم، احتفظ الأمريكيون بالأمل أن تتراجع تركيا عن شراء هذه المنظومة، كما سبق وتراجعت في اللحظة الأخيرة عن شراء صواريخ صينية مضادة للطائرات.
ولكن على الرغم من تحذيرات حلف الأطلسي وتهديدات الولايات المتحدة؛ وصلت الشحنة الأولى من قطع هذه المنظومة في 12 يوليو/تموز الماضي إلى تركيا، وسوف تصل القطع المتبقية عبر البحر في غضون الصيف الجاري. وبإصرارها على امتلاك هذه المنظومة؛ فإن أنقره تهدد تناغم المنظومات الدفاعية في حلف الأطلسي، وتتعرض لعقوبات من قبل الكونجرس الأمريكي، ففي بيان مشترك أعلن عضوا لجنة الشؤون الخارجية في مجلس النواب: الجمهوري الويت انجل؛ والديمقراطي مايك ماكفل: «لقد وضعنا الرئيس أردوغان أمام خيارات فاختار أسوأها. أن يختار عضو في حلف الناتو التحالف مع روسيا على حساب حلف الأطلسي، والتعاون الوثيق مع الولايات المتحدة فهذا أمر يصعب فهمه».
من الجهة التركية يعد شراء هذه المنظومة إعلان استقلال كما وصفه الرئيس أردوغان في 8 يوليو/تموز المنصرم، ومناسبة له للتأكيد بأنه قادر على الوقوف في وجه القوى العظمى، وهو الذي ما فتئ يكرر القول: إن «العالم أوسع من خمس دول» في إشارة إلى أعضاء مجلس الأمن الدائمين إلا أن مناوئيه ينتقدون ارتماءه في أحضان روسيا في عملية ابتعاد ممنهج عن المحور الذي انتمت إليه بلاده منذ قرن تقريباً من النواحي الاستراتيجية والاقتصادية والقيمية. من جهته، حاول «الناتو» أن يعد المسألة مجرد توتر عابر في العلاقة (التركية-الأمريكية)؛ لكن الإعلان عن وصول الشحنة الأولى من صواريخ ورادارات منظومة «إس-400» إلى تركيا؛ يدفع إلى الذروة توترات قائمة، تغذيها الأزمتان: السورية والكردية، كما الانقلاب الفاشل على أردوغان في عام 2016، والذي تسبب بطرد وسجن عدد كبير من المسؤولين الأتراك، الذين اعتاد قادة «الناتو» على التحاور معهم.
الأمين العام لحلف الأطلسي جينس ستولتنبرغ، الحريص على الإبقاء على قناة الاتصال مع أردوغان، يتوخى «الحذر الاستراتيجي»؛ ذلك أن هامش المناورة لديه ضيق للغاية. فالمعاهدة المؤسسة للحلف لا تتضمن أية آلية عقوبات بحق أي عضو من الأعضاء، ولا يوجد في النظام الداخلي للحلف ما يتيح تطبيق مثل هذه العقوبات؛ لذلك ستكون واشنطن هي من يقرر تطبيق الإجراءات العقابية.
في نهاية يونيو/حزيران المنصرم عقد اجتماع أمريكي - تركي على هامش اجتماع وزاري في بروكسل. هذا الاجتماع كان محاولة أخيرة للتفاهم والتذكير «بعقود طويلة من التعاون بين شركاء استراتيجيين»، بالتوازي مع تحذيرات البنتاجون؛ المتعلقة بعدم الانسجام بين برنامج طائرة الشبح الأمريكية «إف-35» ونظام «إس-400»، والتأكيد بأنه لن يسمح لأنقرة بامتلاك النظامين معاً. وتنتظر تركيا الحصول على 116 نموذجاً من طائرة الشبح، والمساهمة في تطويرها؛ عبر استثمار بقيمة 1.4 مليار دولار. وقد تم بالفعل شحن عشرات النماذج من هذه الطائرة، التي ما تزال في طور التجريب، إلى تركيا. ويؤكد مسؤولو البنتاجون بأنه عبر نظام «إس-400» يمكن لروسيا كشف أسرار تكنولوجية تمكنها من إسقاط الطائرة الأمريكية المذكورة.
على الرغم من الهدوء الظاهر السائد في حلف الأطلسي هناك أسئلة تدور حول إدارة ملف يتعلق بثاني جيش في الحلف؛ من حيث العديد، وحول قرار أردوغان تأكيد استقلاليته حيال أمريكا و«الناتو». فقد قرر على ما يبدو أن واشنطن لم تعد شريكاً لا بد منه؛ بل أكثر من ذلك ربما أنه يسير في طريق ينتهي بقطيعة استراتيجية معها.
من جهتها، واشنطن مضطرة إلى الرد؛ كي لا تقع معطيات استراتيجية مهمة في أيدي الروس؛ ومن أجل ألا تصبح العمليات المشتركة داخل الحلف أكثر تعقيداً؛ ومن أجل ردع دول أخرى في الحلف قد يغريها الاستحواذ على أجهزة روسية أو صينية أو غيرها؛ لكن المشكلة أن دور تركيا في الحلف أساسي، ولا يمكن الاستغناء عنه، من الناحية اللوجستية مثلاً تمتلك واشنطن صواريخ وقاعدة للناتو لطائراتها في أنجرليك في جنوبي البلاد، أو من ناحية السيطرة على الهجرة؛ وهو موضوع أساسي للحلفاء الأوروبيين؛ لذلك فإن الأطراف المعنية بهذه الأزمة تبقى مضطرة إلى القيام بردود فعل مدروسة وغير متهورة. فالحلف بات مضعضعاً من الداخل؛ لأسباب كثيرة تراكمت منذ نهاية الحرب الباردة، مروراً بالغزو الأمريكي للعراق، وصولاً للعلاقة مع تركيا والموقف من أزمات كثيرة في الشرق الأوسط؛ لكن الخطورة أن يتحول الحلف إلى ساحة لمواجهات داخلية بين أعضائه أنفسهم، وهو ما لا مصلحة لأحد منهم فيه.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دكتوراه دولة في العلوم السياسية وشغل استاذاً للعلاقات الدولية والعلوم السياسية في الجامعة اللبنانية ومشرفاً على اطروحات الدكتوراه ايضاً .. أستاذ زائر في جامعات عربية وفرنسية.. صاحب مؤلفات ودراسات في الشؤون الدولية باللغتين العربية والفرنسية.

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"