حديث عن تظاهرات الاحتجاج

03:49 صباحا
قراءة 3 دقائق
جميل مطر

في شيلي وفي لبنان جماهير تحتج في الميادين والشوارع كل بطريقتها، وفي فرنسا جماهير تخرج إلى الشارع لتحتج وتخرب قليلاً وتغيب ثم تعود، وفي الجزائر الجماهير لا تترك الاحتجاج في الشوارع إلا لتعود إليه، فالحكم هناك لا يتصور ولم يعرف لنفسه بديلا، وفي هونج كونج تريد الجماهير أن تحكي للعالم ومن شوارعها رواية صينية عن هونج كونج غير الرواية التي تحكيها بكين. كنا إلى سنوات قليلة نقرأ عن احتجاجات نقابية وفئوية في الصين.
في اليمن وفي ليبيا خرجت جماهير إلى الشوارع ولم تزل فيها، وخرجت جماهير في السودان واحتجت ودفعت ثمن احتجاجاتها قبل أن تحصل على بعض ما تريد، وفي النهاية عادت إلى منازلها وأعمالها ومعها تحفظاتها.
لكل جمهور خرج إلى الشوارع محتجاً حكاية يريد أن يحكيها. يريد أن يحكيها بنفسه ولا يريد لأحد أو جهة أخرى أن تحكيها نيابة عنه. جرت العادة في أزمنة سابقة أن يقرر حزب ما في مكان ما أن ينهض بحركة احتجاج ضد سلطة حاكمة. تتبلغ فروع الحزب بالقرار فيبدأ التحشيد، وفي وقتنا كانت المدارس الثانوية خلال أيام الأسبوع من السبت إلى الخميس أو المساجد عقب أداء صلاة الجمعة مراكز التحشيد وانطلاق تظاهرات الاحتجاج. يقوم فينا خطيب، وبعد خطابه الناري وقد سخنت المشاعر يعين أحد المتظاهرين نفسه زعيماً يحمله رفاقه على الأعناق وهم من تحته ومن خلفه يرددون ما تجود به قريحته من هتافات.
اختفت هذه الصورة الرومانسية في عالمنا العربي، وفي العوالم الأخرى. علمت باختفائها منذ زمن، منذ أن تعقدت ظروف الإدارة والحكم، منذ صار المواطن رقما صعبا في منظومة الحكم والعلاقة بين الحاكم والمحكومين، منذ أن بدأ أولادنا يتعاملون في فصول الحساب مع البليون والتريليون.
تنوعت وسائط الاتصال وانتشرت بين الصغار والكبار حتى صارت الأسرار والخصوصيات ممتلكات عامة، وتعددت المطالب والرغبات بما تجاوز قدرة الحكومات في كل مكان على الاستجابة وأداء واجبها. في كتالونيا اتسعت الفجوات في داخلها وبينها وبين مختلف مقاطعات إسبانيا. طالبوا بما لا تستطيع حكومتهم الوفاء به. طالبوا، فوق ما تحقق من الزيادة في الدخول والانتقال إلى طبقات اجتماعية أعلى، طالبوا بانفصال كتالونيا عن الوطن. تنكروا لوطن احتموا به مئات السنين من أجل وطن مشيد في أحلامهم.
في بوليفيا والإكوادور نضجت ثورة من نوع آخر. خرجت من أمريكا الجنوبية قبل أربعين عاماً مقتنعاً بأنها سنوات قليلة وأرى أو أسمع عن حكومات يقودها زعماء من السكان الأصليين. هؤلاء هم أحفاد أهل أفلتوا من الإبادة أو الاندماج القسري في الجنس الأبيض. عشت قريبا منهم في شيلي ووسطهم في بيرو وتابعت مسيراتهم الاحتجاجية في المكسيك والشقيقات الخمس في أمريكا الوسطى. إيفو موراليس قائد حركة احتجاج ضد حملة الولايات المتحدة على نبات الكوكا، حملة حقاً شريرة ومقاومة شرسة حتى صارت ورقة الكوكا رمز تحد. هذا الرمز حمل السكان الأصليين إلى مقاعد الحكم لأول مرة. تحقق مطلب ثم تعددت المطالب وعجز موراليس عن الوفاء بأكثرها. الشعب المعتز بما حقق يريد طاقة أرخص ومياه أنقى وفساد أقل. المطالب نفسها التي خرج الآلاف يحتجون بسببها في لبنان وشيلي وإكوادور وهايتي وإندونيسيا والمغرب وتونس والسودان وآلاف أخرى في أنحاء متفرقة من إفريقيا، تستعد للاحتجاج خلال الشهور والسنوات المقبلة. الطبقات الحاكمة تقع في الأخطاء نفسها.
في العراق كما في لبنان، البديل غير جاهز. الفساد لم يشبع والطائفية عاجزة بالفعل والقول معا عن إشباع المطالب. في البلدين انطفأ بريق رموز وتوهجت باللمعان رموز أخرى. وفي البلدين تمتزج الضغوط الخارجية مع الداخلية لتفرز وضعاً طارداً لأي بديل. الحل كما يتمنى بعضنا يوجد في تغيير سلوك الطبقة السياسية ليختلف جذرياً وفعلياً عن السلوك السيئ الراهن. هذا السلوك المتخيل أسهل أن يوجد في العراق من أن يوجد في لبنان. أعترف بأننا ما كنا لنصل إلى هذا الاستنتاج لو لم نكن شهوداً على تصرفات الطبقة الحاكمة اللبنانية وقت أزمة حادة كالأزمة الراهنة. اكتشفنا أن البديل الوحيد الممكن كامن في داخل الطبقة ذاتها وإن بشرط كالمعجزة. الشرط هو أن تشهر الطبقة إفلاسها وتعلن ندمها واكتفاءها بما جمعت وتخفض أعلامها ولا ترفع إلا علم لبنان وتلتزم إفساح المجال أمام جيل جديد يتقدم الصفوف في كل طائفة، وتستعيد إلى النظام اللبناني وضع توازن القوى، الوضع الوحيد المطلوب لمستقبل آمن لهذا البلد.
لبنان ليس وحيدا في عالم الاحتجاج، أغلب الشعوب في حال أو آخر من حالات الاحتجاج. لبنان وحيد في خفة ظله وقدراته الحوارية والعراق أيضاً وحيد، وحيد في العنف. يبقى فقط في النهاية مشدود القامة رافعاً الرأس من تفادي السقوط في هاوية الفوضى والفساد المطلق.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دبلوماسي مصري سابق وكاتب متخصص بقضايا العلاقات الدولية. اشترك في تأسيس مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بمؤسسة الأهرام. وأنشأ في القاهرة المركز العربي لبحوث التنمية والمستقبل. عضو في مجلس تحرير جريدة الشروق المصرية ومشرف على صفحة الرأي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"