عادي
يختصر تاريخ وشخصية ودور مائير بأيام المعركة

«جولدا».. تشكيك إسرائيلي في «نصر أكتوبر»

22:45 مساء
قراءة 5 دقائق
«جولدا».. تشكيك إسرائيلي في «نصر أكتوبر»

مارلين سلوم

السينما إن حكت التاريخ، كيف يعرف المشاهد إذا كانت صادقة ومتى يمكنه التمييز بين الحق والباطل في ما يراه على الشاشة؟ التاريخ يصبح لعبة السينمائيين التي تخدم مصالح السياسيين في كثير من الأحيان، يحركون أحداثه وشخوصه في اتجاهات الرياح المؤاتية لمصالحهم، يستندون إلى وقائع حقيقية، يأخذون القليل من تفاصيلها المعروفة، ثم يضيفون الكثير من بهاراتهم وكل ما تشتهيه أنفسهم ويضمن تحريك مشاعر الجمهور والتأثير فيه وإقناعه بأن ما يراه أمامه وما يسمعه هو الحقيقة الوحيدة والمؤكدة، وقد شاهدنا العشرات من الأفلام التي تناولت «الهولوكست» والحربين العالميتين وتركت بصمات وأثارت تفاعل وتعاطف الناس حول العالم، لأنها صنعت بأيدي محترفي الصناعة السينمائية.. فيلم «جولدا» الذي أثار الجدل منذ الإعلان عنه وبعد انطلاق عرضه في الصالات الأمريكية، هو خير مثال على الحرفة في الفبركة وتدوير زوايا الأحداث التاريخية، وتجسيد للسينما إن حكت «نصر أكتوبر» بعيون إسرائيلية.

1

لن يفاجئك أحد حين يقول لك إنه شاهد فيلماً صنعه إسرائيليون حوّلوا فيه الهزيمة الإسرائيلية في حرب أكتوبر إلى نصر لهم، وتحول نصر الجيش المصري واسترداد أرضه إلى هجوم وعملية غدر وجريمة بشعة ذهب ضحيتها جنود إسرائيليون أبرياء، فهل تتوقع منهم غير ذلك؟ لكن ما تستغربه أن يكون عنوان الفيلم الذي كتبه نيكولاس مارتن وأخرجه غي ناتيف «جولدا»، ولا يركز على سرد أي جزء من حياة رئيسة الوزراء الإسرائيلية الراحلة غولدا مائير الخاصة، يحصر الأحداث في حرب أكتوبر والتي يطلقون عليها حرب يوم الغفران، يمشي معها يوماً بيوم ويعد ال 19 يوماً كما تعد جولدا مائير أعداد الأسرى والقتلى والمصابين منذ 6 أكتوبر، ولا يعود حتى بالذاكرة إلى ما قبل هذا اليوم ولا نرى ولا صورة واحدة أو ظهور أي من أفراد أسرتها، وكأنها اعتزلتهم واعتزلت حياتها الشخصية لتعيش متنقلة بين غرفة نومها الصغيرة ومكتبها وغرفة العمليات العسكرية، والمكان الوحيد الذي تقصده خارج هذه الدائرة هو المستشفى لتلقي العلاج سراً، وتتسلل من ممر ضيق عابرة داخل غرفة الموتى، المشهد الذي يتعمد المخرج تكراره ليحمل رسالة للمشاهدين، حيث يلفت انتباه جولدا وتتلفت بعينيها فتنتبه أنت طبعاً إلى الجثث الموجودة، ففي البداية كانت قليلة جداً ربما جثتين، ثم ازدادت حتى امتلأت أدراج المشرحة كلها.

1
  • استجواب الهزيمة

ناتيف اختصر تاريخ وشخصية ودور جولدا مائير بهذه الفترة التي كانت عصيبة على إسرائيل، وقد انطلق طبعاً من وصول جولدا إلى قاعة مثلت فيها أمام لجنة التحقيق «أجرانات» التي استجوبتها باعتبارها المسؤولة عن الهزيمة التي لحقت بالجيش الإسرائيلي وسقوط عدد كبير من الأسرى والقتلى والمصابين.. ليست محاكمة بقدر ما نراها استجواباً يجعله المخرج معبراً لنا لنعود مع مائير بالذاكرة إلى ال 19 يوماً، وتبدو فيه هذه المرأة «الحديدية» صلبة واثقة من نفسها شديدة الصراحة وشديدة «الإنسانية»! حيث كانت تحرص على تدوين أعداد القتلى والأسرى والمصابين على أجندتها الصغيرة التي تحتفظ بها في حقيبتها، ونفهم أن كتابتها لهذه الأرقام «دليل» على مدى تحمل هذه المرأة لمسؤولياتها لدرجة أنها تكتب الأرقام كي تتذكر دائماً أنها هي المسؤولة عن كل هؤلاء وما حصل لهم يبقى في عنقها.

1

لا يستعين المخرج بالأرشيف والصور ومقاطع الفيديو الحقيقية من تلك الحقبة إلا في لقطات عسكرية قليلة جداً، ويكتفي بمشهدين تظهر فيهما مائير في لقطات سريعة خلال زيارتها للجنود في أرض المعركة، والمشهد الأبرز يتركه للختام حيث تجلس مائير بجانب الرئيس الراحل محمد أنور السادات تمازحه وتبدو صاحبة نكتة وشديدة الذكاء طبعاً.

  • ممثلة موهوبة

صناع الفيلم لم يجدوا أفضل من الممثلة هيلين ميرين لتؤدي دور جولدا مائير، محقون في الاختيار، فهي الرقم الصعب والموهوبة حتى النخاع، تلبس كل شخصية تؤديها فتصير توأمها، هنا تراها جولدا التي تنسيك ملامح ميرين وبنيانها ومشيتها، ساعدها في تقمص الشخصية كون مائير مدخنة بشراهة مخيفة، فجعلها المخرج في الفيلم مستفزة بكثرة تعلقها بالسيجارة، حتى وهي ممددة على سرير المستشفى تتلقى العلاج الكيميائي بسبب إصابتها بسرطان الغدد اللمفاوية، يتصاعد الدخان كغيمة فوقها ثم يعيدها المخرج إلى الوراء في حركة تصوير كأنه يعيد الشريط لاسترجاع الأحداث.. لكن اختيار ميرين لتأدية جولدا أثار غضب فئة من الإسرائليين وجدوا أن هيلين لا تليق ببطلتهم الحقيقية جولدا.

 

أكتوبر 1973 مرحلة توقف عندها الفيلم ولم يتجاوزها إلا ليظهر أن جولدا مائير كانت بطلة الحرب وصانعة السلام، وينتهي بوفاتها على فراشها وبمشهد مجموعة من الحمام ميتة على طول ممر المستشفى.

وتعبها إثر جلسات العلاج، حتى يحرص على التصوير عن قرب لحظة تلقيها حقنة الدواء من مساعدتها لو كادار (كاميل كوتين) والتي بدت في الفيلم الأقرب إلى قلب جولدا وكأنها تحل محل كل أسرتها؛ كذلك يظهرها المؤلف والمخرج شديدة الإنسانية ومرهفة المشاعر بتعاطفها مع سكرتيرتها التي فقدت ابنها خلال الحرب في سيناء.

  • علاقة صداقة

محادثات رئيسة الوزراء مع وزير الخارجية الأمريكي هنري كيسنجر (ليف شرايبر)، تبدو علاقة صداقة تفرض فيها مائير مطالبها وتنال ما تريد من أمريكا؛ تستضيفه في بيتها، بل تقدم له الحساء في مطبخها، يذكرها بأنه أولاً أمريكي، ثانياً وزير خارجية، وثالثاً يهودي، فتجيبه مبتسمة «نحن هنا في إسرائيل نقرأ من اليمين إلى اليسار» فيضحكان ثم يتحدثان عن مهلة 18 ساعة قبل إعلان وقف إطلاق النار ثم يغادر.

غرفة العمليات، نرى فيها طبعاً الاجتماعات التي كانت تجريها مائير مع وزير الدفاع موشيه ديان (رامي هيوبرغر) والقائد العسكري الإسرائيلي ديفيد العازار الملقب ب دادو (ليور أشكناز). نرى الهزيمة ويتعمد الفيلم بشكل واضح التأكيد أن أشرف مروان كان عميلاً مزدوجاً، ناهيك عن تفاصيل يظهر فيها أن جنود وقادة الجيش المصري كانوا خائفين، وأن الإسرائيليين حاربوا ببسالة وحاصروا الجيش الثالث الميداني وانتصروا وفرضوا إرادتهم وكل شيء سار وفق مخططاتهم وإرادتهم.

لا يمكن تصنيف الفيلم بأنه تاريخي ولا توثيقي ولا هو سيرة ذاتية ولا يمكن وضعها ضمن قائمة أفلام الحرب، هو مجرد رغبة في إعادة إحياء ذكرى حرب أكتوبر من وجهة نظر تنتصر لجولدا مائير وتبرر فشل قادة إسرائيل في ذلك الوقت وتعيد النصر المصري إلى خطأ وخلل حصل في جهاز التنصت لا لبراعة وذكاء وحسن تخطيط من الجانب المصري!، فيلم موجه يخدم أهدافاً سياسية واضحة، يكشف لحظات الصدمة لدى الحكومة الإسرائيلية لكنه يلحقها برد اعتبار وانتصار، تغيير للحقائق يمكن أن يصدقه من لا يعرف التاريخ وتصدقه الأجيال الجديدة فتنتصر السينما حيث فشل القادة وفشلت إسرائيل.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/4ut9kwyc

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"