المؤسسات الدولية وأوهام التنمية

00:29 صباحا
قراءة 3 دقائق

د.إدريس لكريني

مع اقتراب نهاية الحرب العالمية الثانية، بادرت الولايات المتحدة الأمريكية إلى إرساء نظام نقدي دولي جديد (نظام «بريتون وودز» لعام 1944)، كسبيل لتعزيز الهيمنة الاقتصادية، إلى جانب النصر العسكري والاستراتيجي الذي سيتأسس مع فوز الحلفاء في هذه الحرب، وإنشاء الأمم المتحدة على أنقاض عصبة الأمم، قبل ظهور مؤسسات مالية، كصندوق النقد الدولي والبنك الدولي، التي ستدعم ركائز هذا النظام.

ومنذ ذلك الحين، ظلت هذه المؤسسات تؤكد أنها ستعمل على تعزيز التعاون الاقتصادي الدولي، وتشجيع التجارة الدولية، وتنقل الاستثمارات ورؤوس الأموال كسبيل لتحقيق التنمية عبر العالم، والحيلولة دون وقوع الأزمات المالية والاقتصادية، ومساعدة الدول النامية على تبنّي سياسات اقتصادية سليمة.

ومع توالي السنوات وتراكم تجارب هذه المؤسسات، بدأت تتبلور الكثير من الإشكالات التي تكشف التناقضات الحاصلة بين الخطابات والشعارات التي أطلقتها هذه المؤسسات، من جهة، وواقع الممارسة من جهة أخرى.

وهكذا برزت مواقف متباينة، تتأرجح بين التأكيد على دور هذه المؤسسات في تحقيق التنمية وتخفيف عبء الأزمات داخل البلدان النامية من ناحية، وتكريسها للهيمنة والتبعية، من ناحية أخرى.

فالاتجاه الأول ما زال يتشبث بأن هذه المؤسسات تمثل أداة لدعم التنمية، حيث قامت بمجموعة من المبادرات، وقدمت الكثير من المساعدات لمجموعة من الدول، وساهمت في إنقاذها من الأزمات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. فيما استطاعت الكثير من الدول المستفيدة من قروضها من تطوير اقتصاداتها وبنياتها التحتية، وتعزيز جهود التنمية.

أما الاتجاه الثاني، فيعتبر بأن هذه الهيئات التي تحظى بحضور وازن للدول الغربية، وبخاصة الولايات المتحدة بداخلها، على مستوى التمويل واتخاذ القرار، تشكل آلية لتكريس التخلف والهيمنة الاقتصادية، إلى جانب السيطرة السياسية والعسكرية، من خلال قيامها بدور خفي يخدم أجندات هذه القوى، بل هناك من يعتبر ذلك نوعاً من الاستعمار الجديد، بخاصة وأنه يكرّس التبعية، ويقيّد الدول الفقيرة بالقروض، ويحول دون إقلاعها وتطورها، فيما يذهب آخرون إلى أن حرص هذه المؤسسات على تنفيذ تدابير تضمن تدفق أقساط الديون إليها بانتظام، لا يوازيه نفس الصرامة في ما يتعلق بمواجهة الفساد والتعقيدات البيروقراطية والريع، رغم تأثيراتها السلبية في التنمية.

ويختلف أداء المؤسسات المالية الدولية داخل البلدان العربية، ففي الوقت الذي تقتصر علاقتها ببلدان الخليج والدول النفطية على الدعم الفني والاستشارات، هناك دول أخرى، تستفيد من برامج تسهيلات مالية، ومن قروض، كما هو الشأن بالنسبة إلى مصر وتونس والمغرب والأردن واليمن وموريتانيا والسودان.. ولا تخفى تأثيرات هذه المؤسسات على مستوى توجيه السياسات الاجتماعية والاقتصادية في عدد من البلدان العربية، حيث أضحت القروض وسيلة للتدخل في سبل ناعمة في سيادة عدد من الدول، حيث تربط هذه الهيئات الاقتراض (منذ سنوات الثمانينات) بتحرير الاقتصاد والخصخصة ثم التقشف، ما أدخل الكثير من الأقطار في متاهات من السياسات والبرامج التي لا تفضي إلى التنمية المستدامة، بل كثيراً ما عمقت معضلاتها الاقتصادية والاجتماعية، التي أدّت بدورها إلى أزمات سياسية متتالية.

وعلاوة على تحولات ما يسمى «الربيع العربي» التي اندلعت في سياق تراكم مجموعة من السياسات الاجتماعية والاقتصادية؛ مخلفة أوضاعاً اقتصادية مختلة؛ على مستوى تفشي الفساد والفقر والبطالة وارتفاع المديونية الخارجية؛ وعجز الموازنة المالية، وتزايد هوة الفوارق الاقتصادية والاجتماعية وتضرر الطبقة الوسطى، كشفت جائحة كورونا عن مجموعة من الاختلالات في المجال الاجتماعي والصحي والتعليمي، التي يعود جزء منها إلى إملاءات هذه المؤسسات. وخلال هذه المرحلة، لجأت الكثير من الدول العربية، كمصر والسودان وتونس ولبنان والمغرب والأردن، إلى مزيد من الاقتراض كسبيل لتلبية المطالب الاجتماعية المتزايدة، والتعافي من الجائحة، وتحقيق قدر من الموازنة الاقتصادية.

ولا يمكن إلقاء اللوم على فقط المؤسسات المالية الدولية في ما يتعلق بالواقع الاجتماعي والاقتصادي لعدد من البدان العربية، طالما أن هذه الأخيرة تلجأ إلى خدماتها بشكل سيادي، ولذلك فالتحرر من المتاهات التي يفرضها اللجوء إلى هذه المؤسسات، يبدأ من اعتماد خيارات اقتصادية واجتماعية استراتيجية وطنية، تقوم على استثمار الكفاءات البشرية وتعبئة الإمكانات المتاحة، وتطوير القطاعات الحكومية، ومكافحة الفساد، وتشجيع الاستثمارات الخارجية، بدل اللجوء إلى الاقتراض الذي يمثل حلولاً سهلة وغير مستدامة تكرس استمرار الأزمات، خصوصاً أن هناك دول كماليزيا استفادت من هذه المؤسسات، وطورت اقتصادها، قبل أن تتخلص من وصفاتها وضغوطاتها.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/554btcx9

عن الكاتب

​باحث أكاديمي من المغرب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"