عادي

الجمهور رئة الشاعر

01:11 صباحا
قراءة 6 دقائق

ملف من إعداد: أشرف إبراهيم

ينشد الشعراء عادة اكتمالهم في أعين المتلقين، وكلما كانت نصوصهم قابلة للتأويل وليست عصيّة على التفسير قلت الفجوة وتلاشى الشرود في أثناء المواجهات المباشرة في الأمسيات والندوات واللقاءات الشعرية التي يحاول فيها الشعراء القبض على اللحن، وهزّ القلوب بكلمات مسكونة بملح الحزن أو البهجة، وكلما عرفت الكلمات طريقها للمتلقي أضاءت الشموع في ليل الشاعر وعرف مقدار المحبة لا الخيبة، فيتحرر من كل خوف ويعرج إلى سماء واسعة يلمس فيها كل طموح، لكن إن سقطت شفتاه في بئر التعلثم ماتت الجملة وضاع المعنى، وأصبحت الكلمات هوامش مهتزة فيتحول المشهد في عين المتلقي إلى دعابة عابرة، وفي أعين الشاعر إلى لحظة قاسية.

كيف يقطع الشاعر المسافات في الوصول إلى هذا المتلقي؟ ومن الذي يفترض أن يصعد إلى الآخر في ظل أهمية المتلقي لدى الشاعر الذي يحاول أن يدفع عن نفسه الرهبة في أثناء اللقاء حتى لا يجني المواجع والحسرات ويكون سيئ الحظ؟ خاصة أن أجمل لحظة في حياة الشاعر حين يقول له المتلقي لا أكتفي منك.

يمتلك الشاعر لمسته المفاجئة أمام المتلقي، هكذا ينظر الشاعر طالب غلوم لمشاهد موصولة بالبوح حين يحدث لقاء مباشر بين هذين الطرفين في المواجهات المرتقبة التي يكون فيها همس الشاعر المتمكن بوح مسموع من كل الجهات، والكلمة حلم يمضي إلى أفق مفتوح، وتأشيرة للوصول إلى قلب المتلقي، فهو على قناعة بأن الشاعر العظيم ليس شيئاً عابراً في هذه الحياة، لذا فهو حين يكتب لا يكتب للمتلقي أياً كانت ثقافته، إنما يكتب شهقته المكتومة ونبرته دفعة واحدة.

إن الشاعر يضع صورته في نبض كل كلمة واضحة أو ملغزة وهو بهذا الثراء ليس عليه أن يقف حائراً أمام ثقافة المتلقي سواء كانت عالية أو ضحلة، أو يغير من أسلوبه لأن الآخر يريد لغة سهلة وكلاماً مفهوماً بدرجة ما، وهو لا ينتظر أن يتفحصه المتلقي بنظرة رضى أو تجهّم حين يقف على منبر لأنه يعلم أن الكلمات الشعرية لا يجب أن يقولها أمام المتلقي إلا شاعر ناضج خبير بالتجربة، وهو على يقين بأن المتلقي لا يكون خطراً إلا على الشاعر الضعيف، لكن لا يمكن أن يتغافل غلوم أهمية المتلقي لدى الشاعر لأنه قد يكون رئة أخرى يتنفس بها إبداعه، ونشرة مجانية للعناية بما يكتب، لكنه يتوجس بالفعل من هذا المتلقي الهش الذي يعاني شح القراءة وليس لديه نوافذ معرفية يطل منها على خفايا الإبداع وظواهره؛ إذ لن يمكنه أن يتابع الشاعر ويُؤَوّل ما يقول بفهم وتفسير جمالي مقبول.

رهبة وشحوب

دروب الشاعر كلها إضاءات كما تتصور الشاعرة الهنوف محمد التي تتخيل قبل كل منازلة شعرية طبيعة المتلقي، فهي ترى عالمها الشعري في أعين من يتلقون الكلمات في صبر وتؤدة أو في عجلة ولهفة، فالشاعر من وجهة نظرها لا يجب أن ينظر للمتلقي وكأنه واقف في شرفة، وأن عليه أن يقرأ شعره وهو قادر على المواجهة وألاّ يقرر إخفاقاته السابقة إن كان لديه منها شيء محزن، فمواجهة المتلقي هي في حقيقة الأمر مواجهة للشاعر مع ذاته الأخرى التي تقبل أو ترفض ما يقول، لذا فإنها تدرك أنه ليس أي نص يقرأ على العموم في اللقاءات المباشرة، وأنه يتعين أن يعرف الشاعر نوعية المتلقي ومدى قدرته على استيعاب أفق الشاعر وتصوراته، وأخيلته، وتراكيبه المعقدة في بعض الأحيان حتى يتلاشى الجوانب السلبية التي قد تطغي على هذه اللحظات، وأن يستعد فلا يستكين لرهبة أو شحوب أمام الوجوه التي تنتظر منه أن يجعل من الغرائب اللفظية نوافذ مضيئة تطل منها الدهشة، لأن الشاعر ليس مقدم ابتهالات في هذا العصر، ولا منشداً بالمعنى التقليدي، وأن ابتكاراته في القول الملفوظ تفتح له آفاقاً أخرى مع المتلقي حتى لو كان محدود الثقافة، لأن المتعة الجمالية في كثير من الأحيان تطغي حين يكون الشاعر واثقاً من نفسه عارفاً لحدوده، وكل هذه الملكات لا تأتي إلا بالخبرة والمراس، فضلاً عن أنها لا تخفي بأن المتلقي غير المعلوم هويته وثقافته يخوفها إلى حد بعيد، لذا تحاول أن تتخير في مثل هذه المواقف ما هو متقبل من شعر ويلائم الذائقة.

فوارق جوهرية

ويكتب الشاعر أحمد المطروشي ما يشاء من شعر متحرراً من نوعية المتلقي ومستوى ثقافته، لأنه يقبض على جمر قصيدته ويكتوي بها أولاً، فهو يكتب لكي تفيض قريحته بما يبرق في ذهنه من كلمات، لذا لا يتهيب لقاء المتلقي بأي شكل من أشكال القصائد، لأنه على يقين بأن من يستقبله يجب أن يتبعه ويصعد مع خيالاته وتراكيبه وصوره، فهو يتخيل الشاعر الحقيقي في صورته الأنقى، فالشاعر لديه كعابر في الحياة لا يعرف الارتباك ولا يحاول أن يلتقط أنفاسه مع كل كلمة يقولها أمام الوجوه التي تقابله في الصفوف الأمامية أو الخلفية في القاعات المفتوحة لمنصات الشعر، فرهبة الشاعر أمام المتلقي هي احتراق ومقابلة فاشلة لا تختفي آثارها بسهولة، وهي كمن يطفئ شمعة شعره في ليلة حزينة كونه على يقين بأن قوام إبداع الشاعر الحقيقي هو كبرياؤه، وأنه يجب أن يكون في حالة متوهجة كاملة أمام المتلقي، لأن هذا المتلقي له أهمية لا ينكرها أحد، حتى ولو لم يكن ما يكتب الشاعر ملائماً لثقافة الآخر المستقبل، ويقيس المطروشي نوع العلاقة بين الشاعر والمتلقي من خلال ما تابعه من نماذج لم يهملها التاريخ قديماً وحديثاً؛ إذ يؤمن بأن كلاً منهما لم يتغير وأنه لا يمكن عقد صفقة بينهما لأن قوام نجاح الشاعر هو إبداعه ومدى قدرته على أن يكون مقنعاً حين يعرض لوحاته الشعرية، وبليغاً متمكناً في استحضار المفردات، من هنا تحدث الفوارق الجوهرية ليكون على مقربة من إيقاع المتلقي بالثبات والتحمل، وشحن الذات الشعرية، لكي يكون النموذج الأمثل للشاعر حاضراً بلا تكلف أو افتعال.

أوجه مختلفة

الشاعرة والروائية موزة عوض لا تنفي أهمية المتلقي إيجاباً وسلباً على الشاعر، بخاصة أن تفريغ المعنى أمام المتلقي بشكل مستساغ يوطد علاقة فريدة بين الطرفين؛ إذ إن تيارات الشعر في العصر الحديث أوجدت أوجهاً مختلفة للمتلقي فأضحى الشاعر يبحث عمن تهتز مشاعره أمام كلماته، ويبحث عن الوجه المبدع الآخر الذي ينظر لصورة الكلمة بفاعلية ومعرفة وتذوق حقيقي، وفي المقابل ليس كل شاعر مجيد قادر على أن يصل إلى متلقي العصر، لأن ثمة شحوباً فكرياً وضآلة أدبية أصبحت موجودة في نفوس البعض في العصر الرقمي الذي لا تتداول فيه اللغة العربية بشكل سليم، فتتساءل موزة عوض عن كيف يستقبل هذا الجيل الشعر والشعراء في ظل عدم إتقان اللغة والانجذاب لجرسها الموسيقى وإيقاعاتها الخفية، ومن ثم فهم الأجناس الشعرية وتحولاتها العصرية؟

وعلى الصعيد الشخصي تدرك موزة عوض حجم العلاقة بين المتلقي والشاعر، وأن المنصات الشعرية أصبحت في بعض الأحيان للشعراء أداء للواجب المفترض في الإلقاء، وأن المتلقين في كثير من الأحيان يصعب عليهم الانجذاب للمعنى الشعري، وأنه لا يتوفر ذلك إلا لدى متلقٍ مبدع لا يقل عن الشاعر شيئاً في الموهبة، وأن رهبة الشاعر الحقيقية ليست في الخوف من المتلقي إنما تكمن في أن يدرب نفسه على عدم السقوط والتلعثم والاضطراب، وأن يحسن اختيار القصائد ذات الصفة الجماهيرية التي يستوعبها الآخر، وبخاصة أن المتلقي في هذه الحالة لا يقرأ عملاً شعرياً، لكنه يوفر جماع طاقته العقلية والروحية ليحلق مع الكلمات بنشوة وحب وتوافق غير معهود.

فضاء بعيد

ولا يحبذ الشاعر فارس البلوشي، أن يطل الشاعر من فضاء بعيد في حضور المتلقي، وأن يكون جاهزاً بالخيال الحر والتصوير المذهل، ويقدم لقطة مغايرة وأنه في هذه اللحظة سيكون الشاعر قريباً من المتلقي ولن يخذل أحدهما الآخر، لكن تبقى هناك إشكاليات لابد من وضعها في الاعتبار كون الشاعر في حاجة إلى المتلقي وأنه لا غنى عنه في اللقاءات المباشرة، فمواجهة الشاعر لجمهور غير عابئ بنمط شعري معين يجعل الآخر غير مستوعب اللغة ومجازاتها، والصورة ما تكتنزه من معانٍ غير مستساغة بخاصة لأصحاب الثقافات الهشة، لذا فإن صعود الشعراء إلى المنصات يعد مغامرة يجازفون من خلالها بإبداعاتهم وأساليبهم التجريبية، وهو صعود ضد الريح، يكشف حجم الرهبة التي لا داعي لها والتي من الممكن دفعها بما يسكن في القلب من طمأنينة، وبما يكتنف الشاعر من زهو شعري لا حدود له، وأن يقتنع الشاعر أنه أمام منبره الأثير، وأنه يعبر عن قضيته التي يحب بالشعر والكلمات، هكذا يرى البلوشي الذي يؤمن بأن النجاة من الخوف ومن مواجهة المتلقي ليست صعبة؛ إذ عرف الشاعر أنه بحق في حاجة إلى الآخر الذي يسمعه ويطلبه؛ إذ أجاد مرة أخرى ليقف أمامه، مبيناً أن هناك شعراء فضلوا الكتابة والنشر وآثروا العزلة تجنباً لمواجهة المتلقي لأنهم لم يعرفوا مفاتيحه وحاجته الإنسانية إلى الشعر، وأن يجد من يشاركه الفرح والحزن بالكلمات، ويمنحه أغنية لا تفارقه حتى لو كانت من رماد ومن حزن كثير.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/4wxzkc8j

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"