التدخل «اللعين» للكاتب

00:48 صباحا
قراءة دقيقتين

د. حسن مدن

قبل يومين أو ثلاثة خلصنا إلى أن محلية الأدب الصادقة والصميمة هي شرط عالميته، بعد استعراضنا لما شرحته الروائية التشيلية، إيزابيل الليندي، عن انطباعها عن أدب ابن قارتها، أمريكا اللاتينية، غابرييل ماركيز، موضحة أن ماركيز قبل أن يصبح عالمياً نجح في تعريف أهل القارة بأنفسهم، وبكلماتها: «أخبرنا من نحن. رأينا أنفسنا في مرآته».

نبقى اليوم أيضاً في أجواء أمريكا اللاتينية، لنشير إلى أن العنوان الذي تجدونه أعلى المقال هو قول لأديب من تلك القارة، الأرجنتيني إرنستو ساباتو، في مقالٍ له، قصير وغني في الآن ذاته، يقارب فيه المسألة نفسها، وإن يكن من زاوية مختلفة، ولا يدخل وصف هذا التدخل ب «اللعين» في خانة الهجاء أو الذم. لعله في ذلك يشبه ما يُعرف ب«الوعي الشقي».

يقول ساباتو: «فلنعتبر أن شجرة ما يرسمها أولاً ميليت، وبعد ذلك يرسمها فان جوخ، فالنتيجة أننا سنجد شجرتين مختلفتين بمقتضى ذلك التدخل اللعين للمؤلف، إن ذلك الاقتحام الحتمي للفنان في الشيء هو ما يجعل شجرة فان جوخ أعظم من شجرة ميليت ومن شجرة أي مصور آخر، وأكثر من ذلك، فإن تلك الشجرة هي صورة لروح فان جوخ».

ليس جديداً التفريق بين العلوم الطبيعية والعلوم الإنسانية. قدرة المشتغلين بالأولى على فحص فرضياتهم في المختبرات للتأكد من صحتها ليست متاحة للمشتغلين بالثانية، أكان ذلك في التاريخ أو علم الاجتماع أو الاقتصاد أو سواها، لكن ساباتو يقيم أيضاً مقابلة بين الفن والعلم، فيستشهد بقولٍ لعالم الرياضيات الفرنسي بوانكاريه يمكن صوغه في التالي: الرياضيات هي فن التفكير الصحيح في صورة غير صحيحة، فالمثلث المرسوم على اللوحة ليس هو بالضرورة المثلث الحقيقي الإفلاطوني، إنه مجرد دليل «فظ» للإرشاد الذهني. في الفن يختلف الأمر، بل إنه معكوس تماماً، فالمهم فيه هو الرسم البياني الشخصي والوحيد، والتعبير الفردي المحدد، فإذا وصل المبدع إلى العالمية، فناناً كان أو كاتباً، فإن ذلك لم يتحقق بالهروب مما هو فردي، إنما بالعكس.

برأي ساباتو، يمكن للعلم أن يستغني عن الأنا، بل ينبغي عليه أن يفعل ذلك، لكن الفن ليس فقط لا يستطيع ذلك، إنما يتعين عليه ألا يحاول، وعن أحد الفلاسفة الألمان ينقل قوله: «الأشياء في الفن هي إبداعات الروح، فالأنا هي الفاعل وفي الوقت نفسه المفعول به».

وليس هذا الفيلسوف وحده من يستشهد به ساباتو، وإنما ينقل عن بودلير قولاً يؤكد الفكرة نفسها: «فلنعر للشجرة عواطفنا ورغباتنا أو أحزاننا فأناتها وتمايلها هما أناتنا وتمايلنا، وسرعان ما نصبح نحن هذه الشجرة أيضاً».

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/3snh3448

عن الكاتب

كاتب من البحرين من مواليد 1956 عمل في دائرة الثقافية بالشارقة، وهيئة البحرين للثقافة والتراث الوطني. وشغل منصب مدير تحرير عدد من الدوريات الثقافية بينها "الرافد" و"البحرين الثقافية". وأصدر عدة مؤلفات منها: "ترميم الذاكرة" و"خارج السرب" و"الكتابة بحبر أسود".

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"