نهاية الكتاب

01:38 صباحا
قراءة دقيقتين

د. حسن مدن

نحسب أن علاقتنا بأي كتاب، وقت قراءتنا له، تبعث في نفوسنا مشاعر مختلفة في كل مرحلة من مراحل تلك القراءة. ما نشعر به ونحن في بدايات الكتاب يختلف عما نشعر به ونحن في منتصفه، وما نشعر به ونحن على وشك الانتهاء منه يختلف عنه في الحالين السابقتين. ليس سهلاً شرح ذلك، ربما لأن هذه المشاعر المختلفة غامضة إلى حدٍ بعيد. في البداية نكون إزاء استكشاف ما يشي به الكتاب، هل هو باعث على التشويق أو الفائدة المرتجاة؟ هذا ما يشغلنا لحظتها على الأرجح، وقد تكون الإجابة بالإيجاب، وفي حال كانت بالسلب، فبدا الكتاب، في بداياته، فاقداً للجذب أو المتعة أو الفائدة، فإننا نعزي النفس بأن التالي من الصفحات قد يبدد هذه المشاعر السلبية تجاه الكتاب وكاتبه، فنمنح أنفسنا فرصة للمواصلة، وهنا أيضاً قد تصحّ التوقعات وقد تخيب، وليس الجميع مستعداً لمواصلة القراءة في حال خابت، لكن قد يكون لدى البعض من العزيمة ما هو كاف للمواصلة، أياً كان السبب.

أما إذا نجح الكاتب في أن ينقلنا بسلاسة من بداياته إلى منتصفه، فإنه، بالتالي، قادر على أن يأخذنا بالسلاسة نفسها إلى الخواتيم، وحين نقترب منها سنشعر بأن وتيرة الرغبة في إنهائه تعلو، وفي الأمر جانب سيكولوجي مهم، فالشعور بأننا قد بتنا قريبين من النهاية، قد يخلق في نفوسنا رغبة في بلوغها بسرعة أكبر. لم يبق الكثير، فلماذا لا ننهيه بسرعة؟ خير من عبّر عن هذا الشعور هو الكاتب الفرنسي مارسيل بروست (1871- 1922) في كتابه «أيام القراءة»، ورغم صغر حجم هذا الكتاب، فقد نال شهرة قد لا تقلّ عن شهرة روايته «البحث عن الزمن المفقود» في أجزائها السبعة، التي تعتبر من أشهر الأعمال الأدبية الفرنسية، لا بل والعالمية.

في «أيام القراءة»، وهو يشرح شغفه بالقراءة منذ أن كان فتى يافعاً، قال بروست إن ساعات الليل الأخيرة قد تؤوي قراءته، لكن ذلك لم يكن إلا في الأيام التي يكون قد وصل فيها إلى الفصول الأخيرة لكتابٍ ما، «حيث لم يبق الكثير مما عليّ قراءته كي أصل إلى النهاية»، معرضاً نفسه لعقاب أهله لو اكتشفوا سهره، وللأرق الذي قد يمتد عند انتهاء الكتاب، فحالما ينام أهله يشعل الشمعة من جديد، ويواصل القراءة حتى ينتهي من الكتاب.

لم يكتف بروست بقول ذلك. أضاف التالي: «ها هي الصفحة الأخيرة قد قرئت، والكتاب انتهى. كان عليّ إيقاف السباق المحموم بالعينين، وبالصوت الذي يتبعهما بلا ضجة، أسترجع أنفاسي مع تنهيدة عميقة».

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/yn56mux3

عن الكاتب

كاتب من البحرين من مواليد 1956 عمل في دائرة الثقافية بالشارقة، وهيئة البحرين للثقافة والتراث الوطني. وشغل منصب مدير تحرير عدد من الدوريات الثقافية بينها "الرافد" و"البحرين الثقافية". وأصدر عدة مؤلفات منها: "ترميم الذاكرة" و"خارج السرب" و"الكتابة بحبر أسود".

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"