الشعبوية وصناعة الرأي العام

00:25 صباحا
قراءة 3 دقائق

د. إدريس لكريني

يرتبط الرأي العام بمجموعة من الأفكار والمعتقدات والآراء السائدة في أوساط جزء كبير من مجتمع ما، بصدد قضية أو عدد من القضايا، وخلال فترة زمنية قصيرة أو متوسطة أو بعيدة المدى، وهي تختلف من حيث مضامينها (اقتصادية وثقافية وسياسية..)، وقد تكون صحيحة ومبنية على أفكار ومعطيات علمية وموضوعية، وأحياناً تكون مغلوطة، ومؤسسة على إشاعات ومعلومات خادعة ومغرضة.

لقد مثل التأثير في توجهات الرأي العام هاجساً كبيراً للحكام منذ عصر الحضارات القديمة، كسبيل لتعزيز السلطة وتسويق الإنجازات، وتغيير أفكار وتوجهات الجماهير عبر آليات تقليدية، قبل أن يتطور الأمر في الوقت الراهن من حيث المضامين، وكذا الآليات التي أضحت أكثر تأثيراً، بعدما برزت في هذا السياق مراكز وهيئات متخصصة، تشتغل بأساليب متطورة، تستهدف التسويق للأفكار السياسية والخدمات والثقافات والمنتجات الصناعية والتجارية.

وهكذا تحوّل تشكيل الرأي العام إلى صناعة قائمة بذاتها، تستثمر النخب والقادة والزعماء، والأحزاب السياسية والنقابات وجماعات الضغط، والهيئات المدنية، والصحف والمجلات، حيث تطور الأمر مع اختراع أجهزة الراديو والتلفزيون والسينما، قبل أن يشهد طفرة نوعية مع ظهور شبكة الإنترنت، وما يتصل بها من مواقع ومدونات رقمية، وبريد إلكتروني وتطبيقات مختلفة.. ساهمت بشكل كبير في طرح الكثير من المواضيع والقضايا للنقاش داخل مجتمعات بعينها أو خارج الحدود.

وفي خضم هذه الطفرة الرقمية، برزت التيارات الشعبوية بقوة على امتداد مناطق مختلفة من العالم، بعد سنوات من التأرجح بين المد والجزر، وفي الوقت الذي يعتبرها بعضهم بمثابة حركات احتجاجية ضد المشكلات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي تشهدها الكثير من المجتمعات، يرى فيها آخرون مجرد أصوات سطحية ومرحلية، تحركها ردود الفعل، وتبرز إبان فترات الأزمات داخل مختلف البلدان، بغضّ النظر عن مستواها الاقتصادي أو نظامها السياسي.

تعتمد هذه التيارات على فن الخطابة لتمرير أفكارها، وللتأثير في الرأي العام، كما تستثمر بشكل لافت تقنيات التواصل الاجتماعي كسبيل لتعزيز انتشارها. وعلى المستوى السياسي تقوم التيارات الشعبوية على إطلاق شعارات مثيرة، وخطابات تبسيطية، من أجل تعبئة الجماهير.

إن المتأمل في المشهد السياسي لكثير من الدول، وبخاصة داخل تلك التي تصاعدت فيها الخطابات الشعبوية، يجد أن الأحزاب السياسية والنخب التقليدية لم تجدّد نفسها حتى تواكب التطورات المتسارعة التي شهدها المحيطان الوطني والدولي في أبعادها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، ما جعل برامجها وأداءها بعيدين كل البعد عن انشغالات المجتمع.

لقد أصبحت الكثير من القضايا والمواضيع ذات الطبيعة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي تحظى بمتابعة مكثفة ومواكبة واسعة من قبل الرأي العام، ناشئة من شبكات التواصل الاجتماعي التي تزخر، في جزء مهم منها، بنقاشات وخطابات لا تخلو من شعبوية، يطلقها بعض الناشطين الذين يفتقرون للكفاءة والمعرفة والتجربة، ويفسّر الكثير من الخبراء والمحلّلين هذا الإقبال، باعتباره ردة فعل عقابية ضد أداء القنوات الوسيطة التقليدية (نقابات وأحزاب ومنابر إعلامية..) التي لم تجدّد نفسها؛ ولم تواكب انتظارات المجتمع، ولم تطور بعد خطاباتها وآليات اشتغالها.

رغم الأصداء التي تخلفها الخطابات الشعبوية، والأولوية التي تحظى بها ضمن النقاشات المجتمعية، فإن محك التدبير، يُبرز مع مرور الوقت أن هذه التيارات لا تملك الكفاءة اللازمة لتقديم أجوبة ميدانية مقنعة، من خلال سياسات وتدابير تسهم بالفعل في حلّ المعضلات الاجتماعية والاقتصادية المطروحة، وهو ما يجعل منها مجرد «حركات» مرحلية، تبرز كردّ فعل آني على أوضاع صعبة، وليس نتاج تطور مجتمعي طبيعي، وغالباً ما تفشل عند أول محك يواجهها. ولذلك فلا غرابة إذا ما اتهمت من قبل بعضهم؛ كونها تسهم في ترويج الأوهام، وتفرغ الممارسة الديمقراطية من مدلولها.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
http://tinyurl.com/4x3cu7e7

عن الكاتب

​باحث أكاديمي من المغرب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"