الإنترنت المظلم.. وقمع الخوارزميات

00:05 صباحا
قراءة 4 دقائق

د. ندى أحمد جابر*

كانت بداية التسعينات بداية وردية وعدتنا بفضاء واسع من الحرية الرقمية.. وكما سُمي عصر المطبعة الذي غيّر وجه العالم بعصر (النهضة) التي أيقظته من سُباته وسهلت وصول العلم والمعرفة عن طريق الطباعة، سُمي عصر الإنترنت بعصر(القفزة) التي فتحت أبواب الفضاء على مصراعيه وجعلت العالم قرية صغيرة وسهّلت التواصل وقرّبت المسافات وكان لمحركات البحث ثورتها، بتسهيل وصول المعلومات. وكما نعلم هجرت مُعظم الصحف والموسوعات تاريخ الورق العريق وقفزت مع الزمن لتلحق بهذا الاختراع الجميل.. ويُعتبر المهندس تيم بيرنرز لي مخترع الإنترنت حيث أجرى أول اتصال فضائي ناجح وهكذا تطور اختراعه ليصبح الأهم في عصرنا..

فرحنا بهذا التواصل السهل وهذا العالم الشاسع الذي أصبح بحجم قبضة اليد عندما اعتمدته معظم الهواتف الذكية.. فرحنا ولم نسأل عن جوانبه الأخرى المخفية.. يقول العلماء هناك ثلاثة مستويات من الإنترنت. الإنترنت المفتوح (Open Web) الذي نعيشه يومياً.. والإنترنت العميق (Deep Web) الذي يحتاج كلمة مرور خاصة وتستعمله الشركات والبنوك والجهات الحكومية الحريصة على سرية معلوماتها. وهناك الخطير جداً وهو الإنترنت المظلم (Dark Web) وهو ما خرج عن نطاق السيطرة فلا تحكمه قوانين ولا جهات مُعينة.. والدخول في غياهب هذه الصفحات يتطلب كلمات مرور صعبة ولا يعرفها إلا القلة التي اختارت الاختباء في عتمتها لممارسات كل أنواع النشاطات الاحتيالية الممنوعة عالمياً..

هناك بؤر وأسواق لتجارة المخدرات والأفلام الممنوعة والشاذة، وهناك تنتعش أسواق العملات الرقمية وكل أنواع التزوير.. وهناك الأهم.. فخ اصطياد الجهلة والمرضى النفسيين من الكبار والأبرياء من الأطفال، وهناك حُفر لا أحد يعرف عمقها ولا سرها.. اللهم إلا إذا نجا أحدهم وأبلغ عنها وهذا ما حدث أخيراً في لبنان عند اكتشاف إحدى العصابات التي كانت تعمل لسنوات من دون أن يشعر بها أحد.. ضجت وسائل الإعلام العربية بهذا الخبر وتوالت الأخبار عن الكثير مما يدور في الخفاء من شر يتربص بشبابنا وأطفالنا. ومع تلك المخاوف التي يصعب السيطرة عليها برزت حقيقة أن (الإنترنت المفتوح) الوردي الجميل، ليس وردياً بالكامل وليس محايداً كما نظن.. الحقيقة أن الدخول إلى الشبكة المظلمة إنما يتم عبر الإنترنت المفتوح وعبر منصات التواصل الاجتماعي التي تضم تقريباً كل فئات المجتمع. وبحسب العديد من المراجع من بينها كتاب «كيف تكتشف أي شيء في الشبكة» الصادر عام 2012 للكاتب (دون ماكلويد) وكتاب «الشبكة المظلمة داخل عالم الجريمة الرقمية» فإن الإنترنت المُظلم يعد مَرتعاً لشتى أنواع الجرائم والمواقع القذرة.. كما يوجد فيه منتديات عديدة للمحترفين (الهاكرز) ويحتوي على مواقع تقدم خدمات اختراق صفحات وحسابات الأفراد في شبكات التواصل الاجتماعي والبريد الإلكتروني.

وتعتبر تجارة الممنوعات الأعلى في نسبة زوار هذه المواقع، تليها تداول العملة الافتراضية (Bitcoin) ومن المستغرب أنها تحوي أيضاً موسوعة تسمى (ويكبيديا الخفية) (The Hidden Wiki) ومن خلالها يمكن للمتصفح دخول العديد من المواقع الأخرى ومعرفة بعض المعلومات عنها. وهي في غالبها مرفوضة وغير مقبولة أخلاقياً، حيث يحتوي بعضها على مشاهد فيديو وصور لعمليات تعذيب وحشية. المدهش أنها تباع وأن بعض المرضى النفسيين يشترونها بأسعار باهظة.. والمؤسف أن معظمها يَستخدم الأطفال الذين يتم اصطيادهم من منصات التواصل المفتوحة. كما توجد مواقع تقدم خدمات تأجير قتلة بأسعار مختلفة.. ومواقع تسمى (الغرف الحمراء) (Red Rooms) وهي متخصصة في عرض فيديوهات حيّة ومشاهد تعذيب بَشعة.. هذا عدا موقع (طريق الحرير) (Silk Road) وهو المتخصص في تجارة المخدرات، حيث أعلن أرباحاً قاربت 1.2 مليار دولار لكن هذا الموقع تم اعتقال مؤسسه (ويليام يلبرتشت) بمدينة سان فرانسيسكو عام 2013 وتم سجنه.. وبقيت باقي المواقع تتخفى وتعمل في عتمتها مهددة كل القيم والمبادئ الأخلاقية.. وبقي الإنترنت المظلم بصفحاته الدامسة يتسع والكمائن فيه تتنوع..

والسؤال اليوم بعد كشف عصابة في لبنان وأخرى في القاهرة.. ماذا عن العصابات التي لم تكتشف بعد؟ وكيف يمكن الحد من هذا العبث.. منصات التواصل الاجتماعي تتهرب من المسؤولية وتلقيها على الجهات الحكومية في كل بلد بحجة أنها لا تستطيع قمع الحريات ولا تستطيع الحدّ من استغلال منصاتها للدخول إلى هذا العالم المظلم لكن التجربة الأخيرة التي عرفناها خلال حرب غزة.. أثبتت أن أصحاب هذه المنصات وهي المعروفة للجميع (فيسبوك، انستغرام، تويتر وتيك توك وغيرها) إنما يتحكمون بعقول الناس، ولا أبالغ إن قلت يحتلون عقول الناس احتلالاً دكتاتورياً، وضحت هذه الصورة من خلال تسخير الخوارزميات لخدمة القضايا التي يناصروها.. وتحديد انتشار ما لا يتماشى مع ميولهم السياسية. السؤال الأهم إن كانت هذه المنصات تملك القدرة على استغلال البيانات لكل مشترك وبيعها والاستفادة منها.. وتملك القدرة على قمع حرية النشر.. لماذا لا تستطيع وقف استغلال صفحاتها للدخول إلى مخابئ الشرور وترويج الشذوذ والفيديوهات الوحشية واصطياد الشباب والأطفال؟

منصات التواصل.. التي طورت خوارزميات حجبت مشاهدة معاناة مظلومين في الفضاء المفتوح..لماذا لا تطور خوارزميات تحجب الدخول إلى عالم المُحتالين في القاع المظلم؟ أم أن لحرية التعبير في الظلام.. وجهاً آخر؟

* كاتبة وباحثة في الدراسات الإعلامية

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/yc2dkw8z

عن الكاتب

كاتبة وباحثة في الدراسات الإعلامية

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"