تحولات مقولة «الدولة المارقة»

00:46 صباحا
قراءة 4 دقائق

الحسين الزاوي

يلاحظ المتابعون للفكر السياسي وللعلاقات الدولية خلال العقود الماضية، أن الكثير من المفاهيم والمقولات المتداولة في الخطاب السياسي الدولي على نطاق واسع، لا تحمل مضامين ودلالات موضوعية تعمل على وصف واقع التحوّلات الجيوسياسية العالمية بشكل محايد، نتيجة للانتشار اللافت للألفاظ والمصطلحات المعبِّرة عن تقييمات شخصية ضيّقة لمسار الأحداث وأحياناً للخلافات المتشنجة التي تقع على مستوى العلاقات بين الدول؛ ومن بين أبرز المقولات التي انتشرت بطريقة لافتة للنظر، نجد مفهوم الدولة أو «الدول المارقة» التي تزامنت مع التقسيم المعياري الذي اعتمدته الولايات المتحدة والمستند إلى تصنيف الدول، بناءً على قاعدة أخلاقية ذاتية، تضع الدول الغربية والمتحالفة معها في محور الخير، وتحشر الدول المنافسة لها في زاوية الشر.

يشير أوبير فيدرين وزير الخارجية الفرنسي الأسبق إلى أن عبارة «دولة مارقة» كانت كثيرة الاستعمال من طرف الأمريكيين في عهد الرئيس رونالد ريغان من أجل إنذار الدول المعارضة للهيمنة الأمريكية والمتهمة بممارسة الإرهاب، وتلك التي كانت تسعى إلى الحصول بطريقة غير «شرعية» على الأسلحة النووية، مثل ليبيا التي جرى استهدافها بطريقة مباشرة في إبريل/نيسان سنة 1986 عندما قصفت الطائرات الأمريكية مواقع في ليبيا، ووُظفت هذه العبارة مرة أخرى من طرف إدارة الرئيس جورج بوش الابن من أجل الحفاظ على سلطة وصم جهات بعينها بأوصاف محدّدة.

وبموازاة عبارة «الدولة المارقة» يمكن الحديث عن الدولة المنبوذة أو الدولة الخارجة عن القانون، لاسيما في حالة إيران عندما لجأت واشنطن إلى معاقبة كل من يخترق نظام عقوباتها ضد طهران بعد خروجها من الاتفاق النووي مستندة في ذلك إلى قدرتها على محاصرة كل من يعتمد في تعاملاته الاقتصادية على الدولار؛ وبالتالي فإن امتلاك أمريكا لعناصر القوة المهيمنة يمنح لها «الحق» في تحديد معايير التمييز بن الخير والشر، كما يؤكد فيدرين، ويمكن أن نطلق عبارة «الدولة المارقة» في المستقبل في سياقات مختلفة، مثل حالة الدولة التي لا تنفِّذ التزاماتها بشأن حماية البيئة، لكونها تضع حياة سكان دول أخرى في خطر، بسبب النتائج الكارثية المترتبة عن التغيرات المناخية.

ويؤكد برتراند بادي أستاذ العلاقات الدولية في معهد الدراسات السياسية بباريس، في سياق متصل، أن هذه العبارة تحيل إلى معنى مجرد منبثق من البلاغة السياسية وليس لها صلة مباشرة بالتحليل العلمي، وتهدف إلى المغالطة أكثر مما تُسهم في تقديم توصيف دقيق للوقائع، واستعملت في مرحلة حكم إدارة كلينتون لتحديد الدولة التي تضع نفسها خارج القانون والأخلاق «الدولية»، في محاولة للإشارة إلى دولة قطاع الطرق التي تحدّث عنها الفيلسوف والسياسي الفرنسي جان بودان؛ وتتميز عبارة «الدولة المارقة» بعدم الدقة ويكتنفها الغموض، وتعمل على إقصاء دول بسبب صلتها المفترضة بالإرهاب وامتلاكها أو سعيها لامتلاك أسلحة دمار شامل أو بسبب عدم احترامها لحقوق الإنسان أو عدم تنفيذها لالتزاماتها المتعلقة باحترام هذه الحقوق.

وتفرض هذه العبارة نفسها في سياق تقليد مرتبط بمرحلة ما بعد الاستعمار، كنمط لوصم دبلوماسية دول تقع في مجملها في الجنوب وتعارض بقوة دبلوماسية الولايات المتحدة؛ ومن ثم فإن هذه العبارة التي ارتبطت في أمريكا بجناح المحافظين الجدد، شهدت بعض التحويرات عندما بدأت الإدارة الأمريكية تتحدث عن الدولة المقلقة التي يصعُب الثقة بسلوكياتها وممارستها على المستويين الداخلي والخارجي.

ونستطيع أن نلاحظ انطلاقاً من التطورات الأخيرة التي عرفتها الساحة الدولية بعد حرب الإبادة ضد الشعب الفلسطيني في غزة، أن الصورة الأخلاقية لأمريكا صاحبة عبارة «الدولة المارقة»، تدعو إلى الشفقة لأن دعمها غير المشروط لإسرائيل يقوِّض كل المعجم السياسي للإدارة الأمريكية، ويجعل عبارات من مثل «الدولة المارقة» تبدو مثيرة للسخرية، وبخاصة عندما تستميت الدبلوماسية الأمريكية، عبر كل المنابر الدولية، في الدفاع عن دولة تمارس عمليات القتل الجماعي ضد المدنيين العزل في غزة، وتحاول أن تستجدي رئيس وزرائها نتنياهو لوقف الحرب، لكي لا يُمعن في تسفيه مبادئ سياستها الخارجية أمام الرأي العام الدولي.

ومن الواضح أن خطورة تأثيرات حرب غزة على سمعة السياسة الخارجية الأمريكية لا تقف عند مستوى جعل البلاغة السياسية الأمريكية تبدو متهافتة وفاقدة للمشروعية، ولكنها تتعدى ذلك السقف لتجعل الإدارة الأمريكية رائدةً في مجال التناقض على مستوى السياسة الدولية، وتصبح من ثم تهمة تبنيها لسياسة ازدواجية المعايير مؤكدة؛ لا سيما في سياق تعاملها مع محكمة الجنايات الدولية بعد أن قال الرئيس الأمريكي بايدن لمجلة تايم: «إن المحكمة الجنائية الدولية شيء لا نعترف به»، رغم أنه سبق له أن رحّب بالعديد من القرارات التي اتخذتها هذه المحكمة ضد خصوم بلاده وفي مقدمتها قرارها بمتابعة الرئيس الروسي فلادمير بوتين.

كما أن التهديد الذي وجهه النواب الأمريكيون للمحكمة الجنائية بسبب سعيها لإصدار مذكرات توقيف ضد رئيس الوزراء الإسرائيلي ووزير دفاعه بتهمة ارتكاب جرائم حرب، يبدو فظاً ومشيناً، لأنه يضع المنظومة التشريعية الأمريكية فوق التشريعات الدولية؛ وعليه فإن عبارة الدولة المارقة والخارجة عن القوانين الدولية، باتت تصدق الآن على حلفاء واشنطن أكثر مما تصدق على خصومها.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/3bnt25j9

عن الكاتب

أستاذ الفلسفة في جامعة وهران الجزائرية، باحث ومترجم ومهتم بالشأن السياسي، له العديد من الأبحاث المنشورة في المجلات والدوريات الفكرية، ويمتلك مؤلفات شخصية فضلا عن مساهمته في تأليف العديد من الكتب الجماعية الصادرة في الجزائر ومصر ولبنان

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"