في الحقّ المدني

00:20 صباحا
قراءة 4 دقائق

عَقَبَ استخدامُ مفهوم الحقّ الطّبيعيّ في الفلسفة الحديثة مفهوم الحقّ المدنيّ، من غير أن يُزيح الثّاني الأوّلَ من دائرة التّداول. حصل ذلك، ابتداءً، في منتصف القرن السّابع عشر مع بداية التّأليف الفلسفي في فكرة العقد الاجتماعيّ. يميل بعضٌ إلى حسبانهما مفهومين مختلفين في الدّلالة وفي ما يشيران إليه من حقوق، فيما يتمسّك بعضٌ ثانٍ بالقول إنّهما يعنيان الشّيءَ عينه، لكن مع تغيُّرٍ في الشّروط التي يحصُلان فيها. أمّا البعض الثّالث فيُقِرّ بأنّ تشابهاً يقوم بينهما، نعني على صعيد ما هو مشتَرَك بينهما، ولكن مع الأخذ في الاعتبار أنّ معنى الحقّ المدنيّ لا يَرث معنى الحقّ الطّبيعيّ، فقط، بل يُجاوِزه ويتّسع لأبعادٍ جديدة مستمَدّة من الشّروط التي قضت بقيامه.

لِنُلْق نظرةً سريعة على الظّروف الفلسفيّة التي نشأ في أكنافها مفهوم الحقّ المدنيّ وعلى استخدامه الأوّل في الفكر السّياسيّ الحديث.

إذا كان يمكن تعريفُ المفهومين والتّمييز بينهما، على وجهٍ عامّ، بالقول إنّ الحقّ الطبيعي هو ما تمنحه الطّبيعة للإنسان، والحقَّ المدنيّ هو ما تمنحه الدّولة له، فإنّ ما بين الحقّيْن أكثر من علاقة: تشابُه، استمرار، اختلاف، قطيعة...إلخ. وهذه علاقات لا تُفْهَم إلا في سياقها الفلسفي الذي تولّدت فيه، وتحديداً في كتابات فلاسفة العقد الاجتماعيّ. والعلاقات هذه يدخل في تكوينها مجموعٌ من العوامل: الحقّ، بيئة الحقّ (الطّبيعة، الدّولة)، الإنسان في البيئتين.

توسَّل فلاسفة العقد الاجتماعيّ مفهوم الحقّ الطّبيعيّ حين شرعوا يؤسّسون لشرعيّة فكرة العقد الاجتماعيّ الذي به تقوم الدّولة. افترضوا وجود حالةٍ سابقة لقيام الدّولة والسّلطة أطلقوا عليها اسم حالة الطّبيعة. ومع أنّ المجتمع الطّبيعي، أو المجتمع الذي يشهد على هذه الحالة فيه، خالٍ من أيّ سلطة تفرض القانون وتُطبّقه، إلا أنّه مجتمعٌ محكومٌ بقانون الحالة التي هو فيها: القانون الطّبيعيّ. أمّا الحقوق التي يتمتّع النّاسُ بها في هذا المجتمع الطّبيعيّ قبل- الدّولتيّ، فأطلقوا عليها اسم الحقوق الطّبيعيّة: مثل الحقّ في البقاء (الحياة)، والحقّ في الأمن، والحقّ في الحريّة.، غير أنّ غياب سلطة رادعة في حالة الطّبيعة، وتمتُّع النّاس بتكافؤٍ في المَلَكات والقدرات، وعدم وجود فكرةِ ملْكيّةٍ خاصّة مسلَّمٍ بها...، تقودهم إلى التّنازع على الأشياء قصد حيازتها بالقوّة. وهكذا لا تلبث حالة الطّبيعة أن تنقلب فتصيرَ حالةَ حرب، ولا تلبث هذه أن تهدّد قوانين الطّبيعة (قانون حِفْظ البقاء، قانون السِّلم،...). والأهمّ من هذا، في ما يعنينا، أنّ الحقّ الطّبيعيّ نفسَه لا يُصبح مضموناً؛ فقد تذهب به حالةُ الحرب المعمَّمة. هكذا سينتقل فلاسفة السّياسة من هذا البناء الافتراضي لحالة ما قبل الدّولة، وما يكتنف هذه من مشكلات تتعذّر معها الحياة، إلى الاستنتاج بوجود حاجةٍ حيويّة إلى الخروج من حالة الطّبيعة هذه وتأسيس مجتمع سياسيّ (دولة) بديل، ولا يكون ذلك ممكناً، عندهم، إلا من طريق تَوافُقٍ بينهم على ذلك، والتّعبير عن ذلك التّوافق في شكل تَعَاقُدٍ، أي إقامة عقد اجتماعيّ.

في مقابل مجتمعٍ طبيعيّ، إذن، ينشأ مجتمع سياسيّ هو الدّولة. وهذا مسارٌ فرضتْهُ حاجة، عند هؤلاء الفلاسفة، هي حِفظ الحقوق الطّبيعيّة من التّبديد في ظلّ حالة الطّبيعة. وعليه، فإنّ أوّل ما يقع التّوافقُ عليه هو التّنازل الطّوعيّ والمتبادَل لكلّ واحدٍ عن حيازة حقّه بنفسه ونقْل حقوق الجميع إلى جسمٍ جديد (الدّولة) يتعهّدها بالحماية والرّعاية. لا يُعَدّ التّنازُلُ ذاك تفريطاً في الحقّ الطّبيعيّ، بل هو مجرّد تحويلٍ له إلى طرفٍ يقتدر على ضمانه وحمايته. معنى ذلك أنّ الحقوق الطّبيعيّة هذه تستمرّ وجوداً مع وجود الدّولة ولا تنتهي بقيامها. الفارق الوحيد أنّ الحقّ الطّبيعيّ لا يعود، حينها، حقّاً طبيعيّاً بل يصير حقّاً مدنيّاً؛ أي حقّاً يُقِرُّهُ المجتمع المدنيّ، الذي هو عند هؤلاء الفلاسفة المجتمع السّياسيّ، لكلّ المنتمين إليه. هذه أصول مفهوم الحقّ المدنيّ: الحقّ الذي ينشأ من حركة الانتقال من المجتمع الطّبيعيّ إلى المجتمع المدنيّ/السّياسيّ (الدّولة).

يمكننا، أيضاً، أن نلاحظ تحوُّلاً ثانياً يجري في امتداد تحوُّل المجتمع الطّبيعيّ إلى مجتمع سياسيّ هو الذي يمثّله الانتقال من حالة الإنسان في الطّبيعة إلى حالة المواطن في الدّولة، مع ما تعنيه صفتُه الجديدة من مضمونٍ سياسيّ ومن حقوق تترتّب عنها.

لا بدّ من استدراكٍ ضروريّ، هنا، لكي نفهم، على التّحقيق، العلاقةَ بين الحقّيْن المدنيّ والطّبيعيّ. قلنا إنّ الحقّ الطّبيعيّ يصير حقّاً مدنيّاً مع الدّولة، أي أنّها هي ما ينهض بواجب صوْنه وإحاطته بالحماية وضمانات القانون. ولكنّ الحقّ المدنيّ ليس الحقّ الطّبيعيّ فقط، ولا هو مجرّد استئنافٍ له فقط، بل هو ما يُضاف على الحقّ الطّبيعيّ من مُضافات (من حقوق أخرى) أيضاً. إنّ الدّولة تُقِرّ حقوقاً لمواطنيها لا تمنحها الطّبيعة لهم، وهي مَا يضمنها بالقانون، لذلك فإنّ سعة الحقوق المدنيّة أكبر ممّا تسَعُه مساحة الحقوق الطّبيعيّة. هذه العلاقة بين المفهومين هي عينُها العلاقة بين الإنسان (الطّبيعيّ) والمواطن (الإنسان السّياسيّ أو المنتمي إلى المجتمع السّياسيّ). إنّ الذي تُمتِّعه الطّبيعةُ بالحقوق هو الإنسان، أمّا المواطن فهو الذي يتمتّع بهذه الحقوق، بوصفه إنساناً، ويتمتّع، في الوقت عينه، بحقوقٍ مدنيّة تُرتِّبُها له مواطَنِيّتُه في الدّولة.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/3k5abszv

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"