معرفة الآخر

00:21 صباحا
قراءة 4 دقائق

في الحياة البشرية، التي يصعب فيها الانعزال، أفراداً ودولاً، هنالك طرفان: نحن وهم، أنا وهو، أي هنالك دائماً آخر، شريك أو صديق أو منافس أو عدو، ولكي تجيد التعامل معه، يجب أن تعرفه، تفهمه، تدركه، ليس بسطحية وهامشية، وإنما بعمق، ومن دون هذا الفهم أو المعرفة الحقيقية ستتعرض حياتك معه لكثير من المطبات وسوء الفهم، أو لكثير من الهزائم، وربما الانتصار، إذ يعتمد على هدفك ومصالحك ومآربك، وهذه العلاقة، إن كانت بين زوجين أو صديقين أو عدوين، تحتاج إلى اليقظة، إذ يخطئ من يعتقد، على سبيل المثال، أن الحياة الزوجية لا تتطلب بذل الجهد الدائم من أجل نجاحها، وينطبق هذا على الصداقة أيضاً، والمعرفة هي أهم أسس النجاح والانسجام والاستدامة.

وفي العلاقات بين الدول، تعتمد أهمية المعرفة، ومستواها، وعمقها، على نوع العلاقة المنشودة، هناك علاقة مع دولة شقيقة، وأخرى مع دولة صديقة، أو دولة عادية، أو دولة عدوّة، والمعرفة في كل الحالات مهمة وضرورية، ففي علاقات الصداقة، تلعب المعرفة دوراً في تطويرها وتعزيزها، وفي علاقات الأشقاء، يصبح بذل الجهد أكثر ضرورة، أما في العلاقات مع العدو، فتكتسب المعرفة بعداً جوهرياً وحسّاساً وخطيراً، لأن أي خطأ قد يؤدي إلى الهزيمة، وهذا ما لا يرغب فيه أي طرف من طرفي الصراع.

في بداية الصراع العربي الإسرائيلي، وقد يعود هذا إلى ما قبل أكثر من سبعين عاماً، كان مجرد التحدث باللغة العبرية خيانة، وقراءة كتب بهذه اللغة خيانة، ولم تكن القراءة عن الطرف الإسرائيلي خيانة، ولكن بلغات أخرى، وبعدها، ومع تحول الوعي الفكري والوطني والاستراتيجي أصبح تعلّم اللغة العبرية بمثابة ميزة، وانتشرت مقولة «اعرف عدوّك»، أي يجب أن تقرأ عن عدوك بلغته، وتقرأ لعدوك بلغته، وانتشرت الدراسات الأدبية والسياسية والاجتماعية عن المجتمع الإسرائيلي، وقد يكون الكاتب الفلسطيني الشهير الراحل غسان كنفاني من الروّاد في هذا المجال، إذ أنجز دراسات عن الأدب الإسرائيلي، وكرّت السبحة بعد ذلك، وانتشرت الدراسات والكتب المترجمة، وأصبح مباحاً أن تقرأ للآخر وبلغته.

وفي المجال الإعلامي، كان محظوراً على المحطات أو الفضائيات التلفزيونية العربية استضافة مسؤولين إسرائيليين، وبعد ذلك، ومع تطور البث المسموع والمرئي وتقنيات الاتصال، والأهم من ذلك، أهمية الاستماع والتعرف للرأي الآخر، أصبح بالإمكان استضافة سياسيين إسرائيليين على القنوات التلفزيونية العربية، رغم أن هذا الأمر قوبل بالاستنكار في البداية، أصبح ضرورياً، أقلها حتى تسمع الرأي أو التصريح بشكل مباشر، ومن دون تحريف، تسمعه باهتمام، حتى لو استمعت إلى ما يزعجك من مفردات وأوصاف، إذ كانت بعض الفضائيات تستضيف متطرفين لا يقبلون بالآخر، ويصرّحون علانية برغباتهم ونواياهم لتدميره أو تهجيره أو إزالته من الوجود. وفعل الإسرائيليون الفعل ذاته، ففتحوا فضائياتهم أمام الآخر، نحن، بل كانوا، كما أعتقد، سباقين، في إنشاء فضائيات باللغة العربية.

أعتقد أن الضبابية التي سادت العلاقة العدائية بين العرب والإسرائيليين كانت سبباً في حروب عديدة، لأنها استندت إلى عداء بين العرب واليهود، وإلى أن تمكَّن العرب والفلسطينيون من أن يميزوا بين اليهودي والإسرائيلي والصهيوني، استغرق ذلك سنوات من الجدل والجهل وسوء التقدير، إذ دائماً، هنالك، في المعسكر الآخر، أصوات عقلانية وأحياناً حكيمة، ونحن هنا لا نبشّر بشيء ولا ندعو إلى شيء، وحديثنا علمي بحت. وحديثنا العلمي يقودنا أيضاً إلى مسألة مهمة تتصل بقضية أهم، وهي معرفة العقلية التي تتعامل معها، أي أساليب تفكيرها السليمة والماكرة، الحميدة والخبيثة، وآليات التفكير. وهنا يمكننا الإشارة إلى قضية التفاوض، كعملية تتطلب براعة ومواهب وذكاء ومكراً أيضاً، وباختصار، يستطيع الإسرائيلي التفاوض معك لعشرات السنين من دون ملل ولا كلل، لأنه يريد إطالة أمد وجوده، بينما أنت تسعى بكل ما أوتيت، لتحقيق وجود ما على أرضك، قد يقبله وقد يرفضه، وهذا حدث في مفاوضات كامب ديفيد، وأوسلو، وحتى المفاوضات غير المباشرة على جبهات أخرى، من أجل التهدئة أو إطالة أمد الحرب. ولعل المكر في المفاوضات الأخيرة، والمفاوض يجب أن يكون ماكراً، من أجل وقف الحرب في قطاع غزة، واستعادة الأسرى من الطرفين، أثبتت كم كان الإسرائيلي مراوغاً وذكياً وماكراً، وقد مرّ حتى الآن أكثر من سبعة شهور على تبادل الأسرى الأول، ومنذ ذلك اليوم، أي منذ 30 نوفمبر 2023 والمفاوض الإسرائيلي يراوغ، رغم كل المساعي والمناشدات، ورغم الحركات الاحتجاجية داخل إسرائيل نفسها التي تطالب بعودة الأسرى في أسرع وقت. طبعاً هذا (المكر) شهدته كافة المفاوضات مع الفلسطينيين والعرب، وبالتأكيد لا نستبعد أيضاً وجود مكر مشابه لدى المفاوض الفلسطيني، الذي يريد أن يوقف الحرب، وهنا تكمن المخاوف، وهذا مبحث آخر.

وبناء على ذلك، هل يفهم السياسي الإسرائيلي العقلية العربية، وآليات تفكيرها، أكثر من العربي، بما فيه الفلسطيني؟ ألهذا استبدل الزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات وفد المفاوضات في أوسلو بوفد آخر ووقع الاتفاقية سريعاً، بينما الفريق الأول المكوّن من د. حيدرعبد الشافي ود. حنان عشراوي استغرق وقتاً أطول، لأنه يفهم العقلية الإسرائيلية أكثر بسبب إقامتهم بين ظهرانيهم؟

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/mr59uj43

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"