لم يمت «الحق في الحياة» بل تمّ اغتياله

00:34 صباحا
قراءة 4 دقائق

د. نسيم الخوري
«الحق في الحياة» كلمة السرّ السحرية الكونية والأبدية لكنها الملتبسة والضائعة عبر عشوائيات الدماء العمياء وشهوات العنف والقتل المتنقّلة. كتب الفيلسوف الفرنسي ريجيس دوبريه: «مات الحق في الحياة» وله الحقّ. مات هرماً ذابلاً لا طعم له ولا لون ولا رائحة سوى مناظر الدماء تدمغ وجودنا في عصر الفضائيات والشهيات العمياء وكأنّ لا بدّ من نسيان هذا الحق؛ بل سحبه نهائيّاً نحو المتاحف...وأضيف «تُخطئ دول العولمة إذ تغالي أو تتغاضى عن تقديم حقوق الإنسان عبر العنف والمذابح مذهباً جديداً للمستقبل».

أين الحق في الحياة إذن بصفته الحق السماوي الأوّل والأسمى ل«حقوق الإنسان»؟ الجواب: قُتل الحق بالحياة ولم يمت؛ إذ بالنقر على غوغل( الاثنين 8 يوليو الجاري) تجد أنّ عدد الضحايا الأطفال والنساء في غزّة بلغ 30000 و534 ضحية و71000 و920 مصاباً.

عن أيّ إنسان وحقٍّ نكتب إذن وكيف؟ مات المصطلح بمعانيه ربّما، بعدما طرّز أعلام مؤسسات الأمم المتّحدة عبر الأزياء الأنجلوسكسونية الموحّدة بعد الحربين، وصار يُقدّم لنا في المدارس والجامعات وكتب التاريخ مطرّزاً بالوعود والأحلام للحمايات فور الولادات بالتغذية والحنان والنمو والعلم والتطوير ضماناً الإنسان في الأرض.

اغتيل المصطلح المتبدّل المطّاط عشوائياً، ليس بعدما حط محمولاً بمنقار «التويتر» ف«الإكس» أو تحت قضمة التفاحة التي تُدمّر أنسجة العلاقات الطبيعية بين آدم وحوّاء بدفق الغرائز الاصطناعية، بل لأنّه وصل مدموغاً بملامح الإنسان المميّز الوحيد المطلق الحرية في تحصيل الحقوق في شرق لم يألف في تاريخه سوى الكل أو ال«نحن» أو الأمّة بمعانيها السماوية الكبرى. تعني ال «نحن» الجماعة الرّاسخة بجذورها طقوسياً وثقافياً من دون أخوّة الرحم والدم، لكن الأخوّة وحقوق الإنسان في الغرب المتبدل لا يمكن أن توجد خارج ال «نحن» التي تفرض صناعتها وقوانينها وحقوقها وفقاً لمقاييس الأنظمة السياسية المطلوبة. ليست المعضلة هنا، في تدفق حريّات التعبير والمعتقد والعيش والاختيار والديمقراطية وتكافؤ الفرص والأخوّة والمساواة وغيرها من التعابير والمصطلحات، بل في انتقاء الأساليب التي تجعل هذه المواصفات المستوردة تكسو جسد الشرق الواسع، لتنخرط بثقافات الأفراد لا في نصوص الأحكام وطبائع الحكّام وحسب. صحيح أنّ حقوق الإنسان وُلدت من أرحام الثورات الأوروبيّة منذ ال 1848 مغمّسةُ ب«فكرة الجمهورية» حيث خيّمت إرادات البحث المُفعمة بعدوى الأخوّة في أوروبا الطامحة كما الإمبراطوريات إلى ختم بطاقة هوية واحدة لأهل الكوكب الأرضي، مع أنّها كانت تطمح لمنافسة بريطانيا التي أتعبت الشمس المشرقة فوق أراضيها ومستعمراتها في القارات الخمس، لكنّ التاريخ لم ينسَ قط التذكير بيقظة العنف في علاقات دول الغرب والشمال، خصوصاً الولايات المتّحدة الأمريكية مع ما تبقّى من الدول والشعوب في الكرة.

هذه مسائل ثقافية عميقة الجذور في تباينات المفكرين والكتّاب جعلت الغرب غربين: واحداً قديماً أوروبياً إنجليزياً كان يأخذ على عاتقه رعاية الدول المستعمرة وتطويرها إلى حدود التماهي بها، وآخر أمريكياً تجاوز تلك الثقافات الاستعمارية ونظر وينظر نحو باقي العالم كلّه بصفته أرضاً عالمية خاصة ترعى فيه قطعان الدول ما يتبقّى لجوعها بعد تخمة الأوطان الذهبية «العظيمة». وهنا ملاحظات:

1- كلمة الحقوق استراتيجية وثيقة الصلة ومباشرة بالسلطات الدينية والإنسانية والسياسية، والقانونية وحتى الأسطورية الموروثة تبريراً لمفاهيم الشرعية ومنطق السلطة باسم الحكم. والكلام عن الحقوق هو البحث عن الحقيقة التي انقسم البشر بشأنها كونها خارج السلطات ولا هي من دون سلطة. إنّها من هذا العالم بفضل العديد من الأفكار والقوانين، لكن الحق يبقى كما أشرت مرتبطاً بالمقدس الخفي أو الظاهر دوماً عبر السلطة، وصولاً إلى السياسات التابعة بل النابعة أساساً من تاريخ الأديان المقارن، حيث تفرض السلطات السياسية تبريراتها بينابيعها وأصولها المقدسة، لترعى أمور الناس والأحداث مُوَثّقة بوظائف وحقوق لا تتغيّر كثيراً في الحكم.

2- هكذا تتحوّل حقوق الإنسان عملياً وفي مقدمها حق الحياة عصفاً إعلامياً، عبر الأنشطة غير التراكمية للجمعيات والمؤسسات والمعاهد والمراصد التي تنخرط على مستويات القول الذي لا ضوابط لمفارقاته بين شرقٍ وغربٍ وعربٍ.

لماذا العرب ؟ لخلوّ ميثاق جامعة الدول العربية الموقّع في 22 مارس (آذار) 1945 من أي نص في حقوق الإنسان، مع أن مجلس الجامعة وافق في 3-9-1968 على إنشاء اللجنة العربية الدائمة لحقوق الإنسان التي عهد إليها إعداد مقترحات وأبحاث وتوصيات ومشاريع اتفاقات تحظى بموافقة مجلس الجامعة. تتألف اللجنة من مندوبي الحكومات العربية وليس من أشخاص وعلماء يؤدون مهمتهم بصفتهم الشخصية، لذا بقي دور اللجنة هامشياً. وبناء على توصية المؤتمر الإقليمي العربي لحقوق الإنسان في بيروت ( 2 و10-10-1968) أنشأ مجلس الجامعة لجنة خبراء لإعداد مشروع إعلان عربي لحقوق الإنسان تمّ إهماله. وبعدما انتقلت الجامعة إلى تونس توصلت باعتماد مشروع الميثاق العربي لحقوق الإنسان (11-11-1982)، أحيل على الجامعة لوضع ملاحظات الدول عليه وصولاً إلى نهاية 1995 مع أن المشروع العتيد لم يصل إلى أي من المواثيق الدولية التي يمكننا إدانتها معاً في ختام هذا النص.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/4dkb24hj

عن الكاتب

دكتوراه في العلوم الإنسانية، ودكتوراه في الإعلام السياسي ( جامعة السوربون) .. أستاذ العلوم السياسية والإعلامية في المعهد العالي للدكتوراه في الجامعة اللبنانية ومدير سابق لكلية الإعلام فيها.. له 27 مؤلفاً وعشرات الدراسات والمحاضرات..

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"