الخيال الشعري للأمراض

00:26 صباحا
قراءة دقيقتين

ما الذي يتبادر إلى ذهنك أوّل ما تطرق سمعك كلمة حمّى؟ قطعاً، ميميّة المتنبي. لكن القلم سيأخذك في شطحة بعيدة إلى أحد المباحث العلمية، التي لا تخلو من الطرافة: سوسيولوجيا الأمراض. بيني وبينك، كان يريد أن يتسلّى بشيء من التهريج الصرفي، فطوال أيام الأنفلونزا، وهو في حوار فصاميّ سكيزوفريني، أي من طرف واحد، في جدال هذياني، مثلما يحدث عندما يَحمى وطيس الحمّى: أليس الأصوب أن نقول عن الشخص، إذا أصيب بالأنفلونزا من دون ثبوت عدوى بالحجة القاطعة: انفلز، مثل انفلق؟ فإذا عُرف مصدر انتقال الداء قلنا: تأفلز، وفلان أفلز فلاناً، أي نقل إليه المرض. أمّا عن أصل التسمية، أهو عربيّ أم لا؟ فقد تجاوز عصرنا الفكاهات من قبيل «سُرّ من رأى». قال: رأيت في المنام أحد الصرفيين يدّعي أن الكلمة إنما هي في الأصل: «الأنفُ لو نَزّ»، وأهل الواحات يعرفون أن النزّ هو، كما يقول صاحب «لسان العرب»: «هو ما يتحلّب من الأرض من الماء»، يكون آسناً، بنّي اللون.

الآن، نفرغ لأبي الطيب وسوسيولوجيا الأمراض. وصْف الحمى في الميميّة، خصوصاً في البيتين الشهيرين، يضعنا أمام مشهد غير مألوف في أيّ تاريخ وأيّ جغرافيا، أن يرحّب العليل بالعلّة، وكأنه يستقبل حبيبته. لا حاجة إلى استدعاء سيجموند فرويد، وإن كانت المعطيات تخرج بنا عن علم الاجتماع إلى علم النفس. ما الذي حدث لأبي الطيب؟ هل جاوزت درجة الحرارة الأربعين، فبات كما لو تناول مهلوسات؟ صار يرى الحمى حسناء ذات حياء ودلال، وأيّ دلال أن تعاف المطارف والحشايا. قال القلم: لو كنت مكانه لأعددت لها المطارق والبلايا. هل يُعقل أن يكون في وضع نفسي متأزم بائس إلى حدّ أن الحمّى تلوح له غنيمة لا يمكن تفويتها؟ في مثل هذه الحالة تعمل الهلوسات عملها، فصعلوكنا الجاهلي تأبط شرّا، وصف لنا قصته الغرامية مع الغول في الصحراء. المتنبي ظل محتفظاً برصيد من الواقعية لأن الحمى ليست الغول ولا العنقاء. هل لفت انتباهك الدور السوسيولوجي، الذي لعبته «كأن»؟: «وزائرتي كأن بها حياءً». الحسناء التي تزور المتنبي في بيته ليلاً، حياؤها منتقص مشكوك فيه، لهذا آثر «كأن». لك أن تسأل هنا: هل زائرة شاعرنا حالة فردية؟ أي أن حمّى الآخرين «أيّ كلام»، تزور في أيّ وقت على مدار الساعة، مثل خدمات التوصيل إلى المنازل، أم أن هذا النوع من الزائرات تطوّرن اجتماعيّاً، بفعل حركات تحرير الإناث لدى قاسم أمين في مصر، والطاهر الحدّاد في تونس؟ معنى ذلك أنه لو أراد اليوم شعراء جدد وصف علاقاتهم بالحمى، لقال أحدهم إنها زارته على الشاطئ، وثان عبر وسائط التواصل.

لزوم ما يلزم: النتيجة الإقباليّة: المتنبي ملئت قيثارته بأنّات الجوى...

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/29wpdcf3

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"