النهضة والبحث العلمي

02:45 صباحا
قراءة 3 دقائق
عبد الإله بلقزيز

نُظِر إلى النّهضة، لمرحلةٍ طويلة، بوصفها تلك العمليّة من الإقلاع الاجتماعي، التي يمكن لمجتمعٍ أن يُنجزها فيتجاوز بها حالةَ التأخر أو التخلف التي كان يرزح فيها. من الواضح، هنا، أن مفهوم النهضة، في استخداماته المعاصرة، بَارَح معناهُ القديم الأدبي (كما في حالة النهضة الإيطالية في الآداب والفنون؛ في القرن السادس عشر)، أو الفكري (كما في النهضة الثقافية العربية فترة القرن التاسع عشر)، ليكتسي معنى مخصوصاً: المعنى الاقتصادي. هكذا بتنا نفهم عبارات من قبيل: النهضة اليابانية، النهضة الآسيوية ل «النمور الأربعة»، النهضة الصينية... إلخ . بمعنى جديد محدد؛ فهذه جميعُها تقول إن هذه البلدان حققت الإقلاع الاقتصادي الذي سمح لها بتحقيق نهضتها، والالتحاق بغيرها من البلدان التي أنجزت نهضتها في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر ( بلدان الغرب الأوروبية والأمريكية).
مبْنى النهضة صار، إذن، على الإقلاع الاقتصادي أو، قُل، إن بلوغها مشروط به، الأمر الذي يختصر أي نهضة في النهضة الاقتصادية على وجه التحديد؛ النهضة التي تُشبع الحاجات، وتحقِّق النمو والرفاه، فتنعكس على الميدانين الاجتماعي والثقافي لتنهض نتائجُها بهما تغييراً حاسماً نحو التقدم. غير أنّ النهضة الاقتصادية نفسَها لم تكن، دائماً، إمكاناً متاحاً للمجتمعات جميعِها، أو هكذا نُظِر إليها لدى من ربطوها بالاقتصاد؛ فهي، عندهم، لا تُمكن إلا باجتماع شروط لها: الديمقراطية، والمشروع التنموي لدى النخبة الحاكمة، والموارد الطبيعية الكافية ثم القوة العاملة المؤهلة.
لو تركنا، جانباً، الديمقراطية التي لم تكن شرطاً رئيسياً للنهضة (لا في اليابان، ولا في كوريا الجنوبية، وتايوان، وسنغافورة...)، سنرى أن الشروط الثلاثة الأخرى لم يعد يقرر منها، اليوم، غير شرط واحد ضروري وأساس، هو توفر مشروع وطني للتنمية والنهضة لدى النخبة القائدة. أما الموارد الطبيعية وثرواتها والقوة العاملة المؤهلة (بالمعنى المألوف قبل الثورة الصناعية الثالثة) فلم تعد شرطاً لتحقيق النهضة وإنجاز المشروع التنموي. نعم، هي قد تكون في جملة العوامل المساعدة والمخففة من أعباء البناء التنموي، لكنها توقفت- قطعاً- عن أن تكون شروطاً للتنمية والنهضة في عالم اليوم.
في حوزتنا على صحة هذه الفرضية الكثير من الشواهد والأدلة؛ إذا كان نمو الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا، مثلاً، قد بُني على وفرة ثرواتهما الطبيعية من نِفطٍ ومعادن (مناجم الذهب في أمريكا)؛ وإذا كانت نهضة دول غربية مثل فرنسا وبريطانيا وإسبانيا وهولندا وإيطاليا والبرتغال استندت، في بعض أهم عناصرها، إلى عملية نهب ثروات المستعمرات، فإن نهضة بلدان كاليابان وكوريا والصين - إلى حد ما- تايوان لم تُسعفها ثروات الطبيعة (وموارد الطاقة تحديداً)، بل هي ما زالت- حتى اليوم- تستوردها من البلدان المصدرة لها، من دون أن يحُول الافتقار الذاتي إليها دون الاستمرار في مسلسلها التنموي المتصاعد.
ما يقال عن الثروة الطبيعية يصدُق، إلى حد ما، على القوى العاملة. ما من شك في أن تنمية البلدان ذات الاقتصادات الكبرى الجديدة، كالصين والهند وكوريا الجنوبية وتايوان والبرازيل، احتاجت - في مراحل من بداياتها - إلى هذه القوى العاملة المؤهلة، تماماً مثلما احتاجت إليها الاقتصادات الغربية الكبرى إلى حدود سنوات الثمانينات من القرن الماضي، غير أن الطفرة العلمية والتقانية، التي حصلت داخل القوى الاقتصادية الجديدة خلال الثلاثين عاماً الأخيرة، أتاحت لها الدخول في طور الاعتياض التدريجي عن العمل اليدوي الماهر بالعمل الآلي والإلكتروني ومضاهاة القوى الاقتصادية الغربية في استدخال تقنيات الروبوت والحوسبة الإلكترونية والذكاء الاصطناعي في عمليات الإنتاج.
من البيّن، إذن، أن النهضة في عالم اليوم هي، ابتداءً وبالتعريف، النهضة العلمية أو النهضة في ميدان البحث العلمي. هذه وحدها ما يجعل التنمية الاقتصادية (أي الركن الأساس في أي نهضة) إمكانيةً متاحة للبلدان والدول. وهي تجعلها كذلك، أي متاحةً، حتى بالنسبة إلى البلدان التي لا تتمتع بحيازة الثروات الطبيعية الكافية لإطلاق عملية التنمية. والحق أن اقتصاد البحث العلمي هو، اليوم، في قلب كل اقتصاد فعال ومنتج، وهو منه بمنزلة القطاع الدافع والفاعل، وما عاد يَسَعُ بلداً ما أن يحرز نجاحاً يُذكر في عملية التنمية من دون أن تحتل التنمية العلمية فيه المكانة الرئيسية التي تتهيأ بها شروط التنمية الشاملة.
هكذا يغيّر عصرُ البحث العلمي، إذن، مفهوم النهضة بتغييره النظرة إلى عملية التنمية ذاتها، وإلى الديناميات الأفعل في توليدها والتمكين المادي لها.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"