إلا أنت يا وطن

03:31 صباحا
قراءة 5 دقائق

جاءت نظم ثم ذهبت، وسادت حضارات ثم بادت، وبرز زعماء ثم انصرفوا ولكن بقيت دائماً هي الأوطان تطل على مواكب التاريخ وترصد دورات الزمان وبعضها لا يختفي أبداً . ومصر من هذا النوع المتواصل منذ فجر الإنسانية حتى يقضي الله أمراً كان مفعولاً، لذلك فإن جراح الوطن تدمي القلوب، وعندما تشتعل النيران في منشآته تحترق معها الأفئدة، خصوصاً أن حرائق يناير 2011 تعيد إلى الذاكرة تلقائياً حريق يناير/ كانون الثاني ،1952 كما أن أحزان المصريين عندما غابت الشرطة عن الشارع فجأة في يناير/ كانون الثاني ،2011 وخلال ظرف عصيب وأيام مضطربة فإنها تشبه إلى حدٍ بعيد الانسحاب المفاجئ للجيش المصري في يونيو/ حزيران ،1967 فلقد كانت النكسة هزيمة خارجية، أما الفوضى فهي طعنة داخلية، ويهمني هنا أن أوضح بأن حق الشعوب في الثورة الشعبية مكفولٌ في كل زمانٍ ومكانٍ، كما أن صوت الشباب يجب الاستماع إليه بل ويتحتم ذلك، لأنه صاحب الحق في المستقبل الذي قد لا نعيشه، فمن غير المؤكد أن نشارك فيه، وليس مقبولاً أبداً أن نضع نحن خطوطه ونفرض على الأجيال المقبلة أسلوب حياتها .

ولست أنكر أن ما بدأ في ميدان التحرير كان انتفاضة شبابية لها احترامها وهي جديرة بأن نأخذها بالجدية والاهتمام اللازمين، ولكنه لا يخفى علينا أيضاً أن عناصر كثيرة اندست فيها وحاولت استثمارها لصالح أهدافها، ولقد سألت أحد أقطاب جماعة الإخوان المسلمين الذي أختلف معه فكرياً مئة وثمانين درجة، ولكنني أعتز بصداقته الشخصية في كل الظروف، عن مدى مشاركة الجماعة في تلك المظاهرات، خصوصاً بعد أن تفاقمت وأحدثت تأثيرها في الشارع المصري، فأجابني الرجل بصراحة ووضوح قائلاً: إن الشباب النقي الجديد على الحياة السياسية يمثل الثلث، وإن جماعة الإخوان تمثل الثلث الثاني، وإن الحركات الاحتجاجية المنظمة وبعض كوادر أحزاب المعارضة يشكلون الثلث الباقي، إذا صح هذا التحليل أو لم يكن فإننا أمام ظاهرة احتجاجية عامة تعيد في جزءٍ منها إلى الأذهان حركة الطلاب التي انطلقت من شوارع باريس عام 1968 لتجتاح غرب أوروبا كلها بعد ذلك إيذاناً بتحول كبير انتقلت به دول من عصر النجوم اللامعة والقيادات التاريخية إلى عصر الحكام المقيدين بأطر ديمقراطية لا مجال لنزعات الفرد في التأثير عليها، ويهمني هنا أن أسجل الملاحظات التالية:

* أولاً: إنه رغم بعض سلبيات ما جرى، إلا أنني أرى فيه إيجابيات أكبر، فلقد جددت شباب الروح المصرية التي لم تتنسم رياحاً جديدة منذ انتصار أكتوبر العظيم وأثبتت التماسك القوي لفئات الشعب المصري وطبقاته وطوائفه، فلم نسمع عن اعتداء على كنيسة أو استغلال لمسجد مما كنا نسمع عنه في الأوقات العادية، بما يؤكد أن الفتنة الطائفية فيروس عارض وليس مرضاً مزمناً في جسد الأمة المصرية، كما أن التحام المصريين من مختلف شرائح العمر والمستويات الثقافية والطبقات الاجتماعية للدفاع عن ممتلكاتهم وسلامة أسرهم من عصابات السلب والنهب والهاربين من السجون تؤكد هي الأخرى صلابة المعدن المصري وتذكرنا بجماعات الصحوة التي تشكلت ذاتياً في المدن العراقية لتواجه سطوة الجماعات الإرهابية والجريمة المنظمة والعنف المخطط .

* ثانياً: إن المشاعر العربية الدافئة التي عبرت بها شعوب المنطقة عن حبها للشقيقة الكبرى وحرصها عليها سوف تظل علامة فارقة تؤكد مكانة مصر لدى شقيقاتها العربيات وقربها الشديد من قلب أمتها ومزاجها القومي، فمن الطبيعي أن تستدعي القلاقل التي تجري في مصر كل اهتمام الجيران بقوة الجغرافيا ومنطق التاريخ وعنصر المصلحة المشتركة، ولكن الواضح أن الأمر قد تجاوز ذلك لكي يطفو بشدة متجاوزاً المنطقة الإقليمية ليطرح نفسه على الساحة الدولية كلها، فالرئيس الأمريكي يتحدث عما يجري في مصر أكثر من مرة في اليوم الواحد وهيلاري كلينتون وزيرة الخارجية تتحول إلى متحدث رسمي عن الموقف الأمريكي تجاه أحداث مصر كلما ظهر جديد فيها، أما المتحدث الرسمي باسم البيت الأبيض فقد كانت بعض معلوماته عما يجري في مصر أشبه بمعلوماتي في علوم الفضاء فالواقع يسبقه بكثير .

* ثالثاً: لقد تأكد للجميع أن استقرار مصر هو ركيزة الاستقرار في الشرق الأوسط وصدق بالفعل من قال (إذا عطست مصر فقد أصيب الشرق الأوسط بالإنفلوانزا) بل لقد بدا واضحاً وظهر جليّاً من مشاورات الإدارة الأمريكية مع الدول المجاورة - عربية أو غير عربية - أن مصر هي بحق عمود الخيمة في الحرب وفي السلام معاً، ففي الأولى لها القيادة، وفي الثانية لها الريادة بل إنني أظن أن الشعور المصري بالانتماء العربي قد تعزز في الأحداث الأخيرة، خصوصاً عندما رفع بعض المتظاهرين صور الرئيس الراحل جمال عبدالناصر في حنين واضح إلى سنوات المجد القومي والدور الإقليمي والعدل الاجتماعي .

* رابعاً: إن الشباب النقي الذي لم تلوثه الحزبية ولم تحركه دوافع شخصية كان هو القادر دائماً على إعطاء القدوة وضرب المثل وتحقيق المصلحة لوطنه ولجيله، بعيداً عن الأهواء الذاتية والأغراض الشخصية والمنفعة العابرة، لذلك فإننا حين نستدعي تلك الظروف الصعبة التي عاشها المصريون في الأيام الأخيرة، فإننا نستدعي تلقائياً إرادة الشعوب التي تحتاج إلى من يعززها ويثقل معدنها ويستخرج منها أفضل ما فيها .

* خامساً: إن المعادلة الصعبة بين الأمن في ظل أوضاع يسود فيها الفساد ويشيع الفقر وتختفي العدالة الاجتماعية لا يمكن أن يكون أبداً جزءاً من معادلة متكافئة مع مجتمع رشيد يستمتع بمظاهر الحكم الديمقراطي وسيادة القانون، ولكنه يعاني أحياناً من الانفلات الأمني لأن قبضة الدولة ليست قوية بالقدر الكافي، إننا في الحقيقة نطلب وضعاً متوازناً، فيه الحرية والاستقرار، فيه الديمقراطية والأمان، فيه التنمية والعدالة وليس ذلك أمراً مستحيلاً على المجتمعات المعاصرة بل إنه يبدو ممكناً أن يسود الاستقرار بمنطق العدل، وأن تنتعش الحرية في ظل الشعور بالأمن والأمان . ولابد أن أسجل هنا أننا قد شعرنا بقيمة الأمن وأهميته وضرورته في الأيام الماضية . وإذا كانوا قد قالوا من قبل (إن الصحة تاجٌ على رؤوس الأصحاء لا يراه إلا المرضى) فإنني أقول (إن الأمن تاج على رؤوس الآمنين لا يراه إلا المهددون) .

. . لقد كنت أنوي أن أكتب هذا الأسبوع تعليقاً على بيان أصدره مكتب الدكتور حسن الترابي في الخرطوم تحت عنوان (أفكار عامة للرد على د .مصطفى الفقي في التصريح المنسوب إليه في جريدة الأهرام الدولية) ولكن سلم الأولويات تغير وأطلت علينا أزمة الوطن الأول فأجلت محنة الوطن الثاني، ولعلي أؤكد في النهاية أن مصر الزراعة والحضارة، الآثار والتاريخ، النيل والبحار، والجغرافيا والمكان، سوف تبقى كلها لكي تمثل سبيكة فريدة في شخصية مصر وهويتها التي لن تضيع أبداً بل سوف تظل مركز إشعاع يطل على الدنيا من حولها، دولة لسيادة القانون واحترام الدستور ورعاية مبدأ المواطنة في شموخ وكبرياء وكأن دلتا النيل في الشمال تفتح يديها للدنيا من حولها، تلهم التاريخ وتعلم الأمم وتوقظ الشعوب .

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دبلوماسي وباحث وأديب ومفكر ومؤرخ وكاتب، يمتلك خبرة واسعة في المجالات السياسية والثقافية ألَّف 36 كتابًا تسلط الضوء على بعض القضايا مثل الإصلاح السياسي والفكري القضاء على كل أشكال التمييز ضد الأقليات، والوحدة العربية والتضامن

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"