لئلا تذهب دماؤهم هدراً

05:08 صباحا
قراءة 4 دقائق

يبدو أن ليلة المصالحات المفاجئة في مؤتمر الكويت، سرعان ما تبين أنها، حتى اشعار آخر، اشبه بالسراب الذي يلوح للظمآن في الصحراء، لكن سرعان ما يخيّب أمله.

لقد ساد الاعتقاد في تلك الليلة السرابية، ان المصالحة إذا كانت نتيجة لتفاهم سياسي في العمق، وليست مجرد تقبيل لحى، فمن البديهي ان يبدو أثرها واضحاً في الاتجاه السياسي والمضمون السياسي للبيان الختامي للمؤتمر، الذي لم يفصله عن المصالحة سوى اربع وعشرين ساعة.

لقد ذهب بعض المتسرعين في التفاؤل السياسي بأمر المصالحة، الى حد الاعتقاد، بأن مثل هذه المفاجأة، قد تصل الى حد تبني مؤتمر الكويت نص وروح مقررات مؤتمر الدوحة. لكن الأمل سرعان ما تبدد وخرج بيان مؤتمر الكويت بشأن غزة، اقرب الى ديباجة، او مقدمة (على حد تعبير المفكر العربي عزمي بشارة)، لم يعقبها أي قرار له علاقة بما حدث في غزة.

الآن هناك تفسيران لما حدث:

* تفسير يقول ان المبادرة التصالحية التي اطلقها كمفاجأة سارة عاهل المملكة العربية السعودية، كانت بنت ساعتها، وإنه كان طبيعياً تصرف وزير الخارجية السعودي بعد ذلك، الذي لم يبد فيه أي أثر سياسي لمبادرة الملك. وجدير بالذكر ان القيادة السياسية السورية العليا تميل الى هذا التفسير، وتعتقد أن محادثات مطولة يجب اجراؤها قبل ان تظهر الثمار السياسية للمصالحة.

* تفسير يقول ان اجواء المصالحة لم تكن اكثر من رد فعل انفعالي مؤقت على هول ما حدث في غزة، وهي بالتالي غير مرشحة الى اكثر من امتصاص الغضب الجماهيري العارم، والعودة بالمواقف السياسية لكل دولة عربية، بعد ذلك، الى مواقعها الأولى.

غير اننا في هذه المسألة لسنا امام حوار نظري اكاديمي، بل نحن ما زلنا امام مأساة مفتوحة في غزة، يمكن لأي حادث من هنا او هناك، أن يعيدها الى سياقها الدموي السابق.

فقرار وقف اطلاق النار الاسرائيلي، والانسحاب الى تخوم غزة، لم يكن ثمرة الضغوط العربية الرسمية، لا في الدوحة ولا في الكويت، ولا ثمرة المبادرة المصرية، بل كان خياراً اسرائيلياً منفرداً اضطرت اليه تل ابيب بعد ان تجاوز عدوانها الدموي الوحشي الأسابيع الثلاثة، دون أن يحقق أي غرض من أغراضه المعلنة، اللهم الا إذا كان الهدف الاساسي للحملة الاسرائيلية هو انجاز اكبر دمار ممكن في غزة، وقتل وجرح اكبر عدد ممكن من المدنيين. وهكذا، عاد الوضع في ميدان المواجهة الى مربعه الأول: هجمة اسرائيلية على قطاع غزة، لكسر الارادة السياسية لشعب فلسطين بأسره (تحت حجة كسر سلطة حماس)، ومقاومة باسلة من كل الفصائل الفلسطينية الموجودة في غزة، بما في ذلك فصائل فتح، وسط جو من تهرب عربي من أي موقف، بحجة حديثة الآن مفادها انه من الحكمة عدم اتخاذ أي قرار عربي قوي، قد يفسر سلبياً، من الإرادة الأمريكية الجديدة، التي لا بد من ترك فسحة طويلة أمامها، للكشف عن نواياها وخطها الأساسي إزاء القضية الفلسطينية.

ويبدو أن الأنظمة العربية الرسمية قد أدمنت منذ ثلاثة عقود ونيف، عادتين أساسيتين:

* عادة ادمان انتظار تبدل الرؤساء الامريكيين في البيت الأبيض، مع تجاهل تام للحصيلة البالغة السلبية عملياً، لهذا الانتظار الذي اتضح أنه رهان عقيم لا يمكن أن ينتج ثماراً عربية ايجابية، حتى لو طال قرناً كاملاً، اذا لم يتحرك العرب اولاً ليفرضوا على واشنطن مراعاة مصالحهم.

* عادة ادمان التغييب الكامل للارادة السياسية العربية المستقلة في شؤون المصير العربي، وانتظار ما يأتينا من قرارات خارجية من الدول الكبرى (وخاصة الولايات المتحدة). لا يبقى علينا بعد ذلك سوى تكيف الانظمة الرسمية مع القرارات الخارجية (المنسجمة حتى الآن، وحتى اشعار آخر، مع مخططات الحركة الصهيونية ومصالحها)، وقمع اي تململ شعبي عربي بين المحيط والخليج، يتحرك في وجه الاستسلام الدائم، لما يفرض علينا من الخارج، من قرارات تحدد حاضرنا ومستقبلنا.

لقد خاض التحالف الأمريكي الإسرائيلي في السنتين الأخيرتين، تجربتين دمويتين لتصفية بؤر التململ في الواقع العربي، التي تبدو نشازا اذا ما قورنت بسلاسة انسجام الأنظمة العربية مع ما ينزل عليها من قرارات سياسية خارجية. واذا كان الكلام عن نصر طرف ما وهزيمة طرف آخر في هاتين التجربتين أمراً بالغ الصعوبة والتعقيد، فإن الثابت، حتى في الإعلام الأمريكي والإعلام الإسرائيلي، أن هاتين التجربتين قد منيتا (على الأقل) بفشل ذريع في تحقيق الغرض الأساسي لهما.

هل يا ترى كثير على المواطنين العرب، ان يأملوا بأن تنتقل هذه العبرة الواضحة للتجربتين، من الدوائر الحاكمة في واشنطن وتل ابيب، الى الدوائر الحاكمة في الوطن العربي؟

وهل يمكن، اذا لم يتحقق ذلك، ان تذهب هدراً دماء اللبنانيين في ،2006 ودماء الفلسطينيين في 2008/2009؟

حتى الآن، واذا استثنينا التململ الشعبي في المنطقة العربية وسائر انحاء العالم، فإن غزة متروكة لتواجه وحدها، وبدماء أبنائها، مصيرها السياسي والإنساني.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

إعلامي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"