سيناريو مؤجل

00:40 صباحا
قراءة 3 دقائق
محمد عبد الله البريكي

الكتابة عن محمود درويش تكاد تكون صعبة، وصعوبتها في كثرة ما كتب عنه، فبقاء الذكر خالداً هو حياة متجددة وعمر لا يموت.

لدرويش مثل غيره من الشعراء طموحات وأحلام، بعضها قد يتحقق وبعضها يبقى مؤجلاً وربما إلى ما لا نهاية، وأحلام الشعراء تعيش في قصائدهم، ويستشفها الناس من خلال حروفهم، فكم من شاعر حلم، ولكن حلمه تكسر على صخور مرسى الواقع، ورحل عن الدنيا مثل موجة ألقت بكل ما تحمله على رملة شاطئ تعوّد أن يموت عليه موج كثير، وربما كان الموج مثل الشاعر يرسم لنفسه «سيناريو جاهزاً» للتحقيق، مدفوعاً بالأمل والطموح في أن يحمل المستقبل الخير والبشائر والفرح.
في أحد هذه السيناريوهات الجاهزة تساءل محمود درويش بفرضية مستشرف للقادم وهو يقول: لنفترض الآن أنا سقطنا، أنا والعدو، سقطنا من الجو في حفرةٍ، فماذا سيحدث؟
وربما أراد ألا يتعب غيره في التفكير، وأراد أن يثبت رؤيته المستقبلية لما سيحدث في مقبل الأيام، فكتب «سيناريو جاهزاً»: في البداية ننتظر الحظ، قد يعثر المنقذون علينا هنا، ويمدون حبل النجاة لنا، فيقول: أنا أولاً، وأقول: أنا أولاً، ويشتمني ثم أشتمه دون جدوى، فلم يصل الحبلُ بعد.
هي الصورة المتشائمة من الواقع المر الذي عاشه، وهو يناضل من أجل أن يتحقق حلم ربما هو جزء منه، ربما يكون هو كله، وطناً أو حبيبة أو طموحاً، وقد جمعني محمود درويش بعد رحيله بسنوات مع بعض القريبين منه، تحدثوا عن تفاصيل كثيرة في حياته، وهذا ليس بغريب على ظاهرة شعرية مثل درويش، فالحديث ذو شجون ويحتمل الكثير من التأويل، ويحتاج إلى كثير من التركيز فيه والتدقيق والتمحيص في كل ما يكتب، فالغائب ليس بمقدوره أن يثبت أو ينفي عن نفسه ما يقال، لكن شعر الشاعر يكفي لأن يصم كل الآذان عن سماع ما عدا الشعر، ونلمس من خلال ما كتبه درويش الكثير وعلى مستويات عديدة، فهو في «سيناريو جاهز» يكشف الكثير من الحقائق من خلال حوارية ثنائية بينه والآخر، وربما بينه وبين ذاته ليقول: «ماذا سيحدث لو أن أفعى أطلت علينا هنا؟ من مشاهد هذا السيناريو، وفحّت لتبتلع الخائفين معاً، أنا وهو؟ يقول السيناريو أنا وهو، سنكون شريكين في قتل أفعى، لننجو معاً أو على حدة، ولكننا لن نقول عبارة شكر وتهنئة على ما فعلنا معاً، لأن الغريزة لا نحنُ، كانت تدافعُ عن نفسها وحدها، والغريزة ليست لها إيديولوجيا ولم نتحاور..».
أي حوار أراده درويش، وإلى أي نقطة يريد الوصول، بالتأكيد هو لا يريد للسيناريو أن يتوقف، لأن الغريزة لن تتوقف في مرحلة، وستظل التناقضات الإنسانية حاضرة في كل مشهد أو جلسة أو حوار أو مقال يكتب عن شاعر بعد رحيله، فمهما كتب أو سيكتب فإن الوقت كفيل بالإتيان بصور متخيلة للواقع تصلح لمعالجته أو تفصيله، وختم محمود درويش هذا السيناريو بنهاية مفتوحة: «.. قلتُ ما الفائدةْ؟ هرب الوقتُ منا، وشدَّ المصير عن القاعدةْ، ها هنا قاتلٌ وقتيلٌ ينامان في حفرةٍ واحدةْ، وعلى شاعر آخر أن يتابع هذا السيناريو إلى آخره!».
خرجت من تلك الجلسة التي جمعني درويش بها مع أشخاص يحبونه ويختلفون على تفاصيل كثيرة في حياته، لكني اتفقت مع مقالي على تقدير إنسانية درويش وهو يقول: «.. وأنتَ تُعِدُّ فطورك، فكِّر بغيركَ، لا تَنْسَ قوتَ الحمام، وأنتَ تخوضُ حروبكَ، فكِّر بغيركَ، لا تنس مَنْ يطلبون السلام، وأنتَ تسدد فاتورةَ الماء، فكِّر بغيركَ، مَنْ يرضَعُون الغمام، وأنتَ تعودُ إلى البيت، بيتكَ، فكِّر بغيركَ، لا تنس شعب الخيامْ، وأنت تنام وتُحصي الكواكبَ، فكِّر بغيركَ، ثمّةَ مَنْ لم يجد حيّزاً للمنام، وأنت تحرّر نفسك بالاستعارات، فكِّر بغيركَ، مَنْ فقدوا حقَّهم في الكلام، وأنت تفكر بالآخرين البعيدين، فكِّر بنفسك، قُلْ ليتني شمعة في الظلام..».

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"