عروبة العراق

04:48 صباحا
قراءة 4 دقائق
د. مصطفى الفقي

العراق قطر عربي في عمومه، ويضم من الأعراق والنحل والملل ما يعطيه فرادة وتنوعاً عن سواه، فالحضارة العربية الإسلامية سكنت العراق منذ يومها الأول بوصول العباسيين إلى سدة الحكم، وما عرفنا مفكراً أو عالماً أو أديباً أو فناناً مر بالمنطقة إلا وعبر على العراق، فيها بدأت المدرسة المستنصرية، وفي قصورها تألق الخلفاء، وعلى أرضها ازدهرت دولة البرامكة حتى صدق عليهم القول الحكيم، (ما من دار ملأت حبرة إلا وملأت عبرة)، رحم الله والدي الذي كان يقول لي: يا بني إن (زهزهت) لك فابدأ الخوف منها! ولذلك تعلّمت ألا أفرح كثيراً، وأن أمضي في حياتي وفقاً للسيناريو الأصعب ولا أقول الأسوأ، وها هو العراق الذي أعطاه الله المياه والنفط معاً والأرض الخصبة، فكلمة العراق في حد ذاتها تعني (أرض السواد)، لقد كانت الطبيعة سخية على بلاد الرافدين ومعطاءة لبلاد النهرين، ففيها تراث حضاري شامخ كالحضارات التي سبقت الإسلام والقوميات التي تعايشت معه حتى اعتبرناها بحق البوابة الشرقية للوطن العربي، واعتبرنا الجيش العراقي حارساً لحدود الأمة، إلى أن ابتلى الله ذلك القطر الشقيق بسلسلة من الأزمات والنكبات والكوارث، فمن حرب مع إيران إلى حصار اقتصادي ودكتاتورية سياسية إلى غزو أجنبي واحتلال أمريكي. وعندما بدأ العراق يتعافى برزت التنظيمات الإرهابية تغتال أمنه وتعصف باستقراره، كما فعلت مع معظم دول المنطقة، لذلك فإن العراق دفع (فاتورة) غالية في العقود الأخيرة، ومن العجب أنه ما زال يواصل دفعها حتى اليوم. فمن تدخلات فارسية إلى أطماع غربية إلى صدامات طائفية، بل وخلافات مذهبية، والعراق رابض على أرضه يتطلع إلى المستقبل البعيد، ولقد كنا نعتبر دائماً أن العراق هو البلد التالي لمصر حضارة ومكانة وتأثيراً، فقد كان لدى العراقيين جيش قوي وسلاح طيران متميز، فضلاً عن كوادر بشرية متفوقة، ولست أنسى أستاذي من جامعة أكسفورد العراقي النشأة والمولد، البريطاني الجنسية والإقامة (د. فخري شهاب)، وكيف كان تألقه العلمي وتوهجه الفكري، بل إن جامعة بغداد قد تواصلت مع جامعة القاهرة منذ ثلاثينات القرن الماضي، وكأنما عادت منافسة العباسيين في العراق مع الفاطميين في مصر والتي كانت أفراح (قطر الندى) بعد ذلك في ظل الدولة الطولونية، مشهداً تاريخياً يعكس ذلك التنافس الحميد بين دولتين شقيقتين وحضارتين عريقتين.
إنه عراق الشيعة والسنّة معاً، عراق العرب والأكراد بلا تفرقة، حيث ظلّت عروبته مضيئة عبر العصور إلى أن جاء وقت كادت فيه أن تختصر هذه العروبة فقط على مجرد أن العراق بلد مؤسس في جامعة الدول العربية، وذلك بعد جهد دبلوماسي وحوار قومي قاده عمرو موسى، أمين عام جامعة الدول العربية الأسبق مع برهم صالح رئيس العراق حالياً، وذلك في غضون إعداد الدستور العراقي الجديد منذ بضع سنوات، إنني أقول ذلك كله لا لكي أتباكى على ما آل إليه العراق، ولكن لأفتح أبواب الأمل في عراق عربي قومي صامد، وليدرك الجميع أن الشيعة العرب من أشد الناس إيماناً بالعروبة لأن قوميتهم سبقت ديانتهم، من هنا فإنني ألفت النظر إلى أهمية التركيز على عروبة العراق حاضراً ومستقبلاً، لأنها ركن مكين في البناء العربي الواحد، وأنا أزعم أن انهيار الجبهة الشرقية قد أعطى «إسرائيل» ميزات جديدة وجعلها تحصد فوائد من أزمات غيرها، خصوصاً بعد ما جرى في سوريا، وما كاد يجري في لبنان مرة ثانية. إن المصريين الذين لا ينكرون عروبتهم، ولكنهم يؤمنون بالأعمدة الشامخة لهويتهم، يعطون ذات الحق للعراقيين ولا يجدون غضاضة في أن يكون فيهم الشيعي والسنّي والمسلم والمسيحي والعربي والكردي والمجوسي واليزيدي، فكلهم أبناء تلك الأرض الطيبة التي عرفت (الأعظمية)، حيث قبر الإمام الأعظم أبي حنيفة النعمان، و(الكاظمية)، حيث قبر الإمام موسى الكاظم فهي أرض الجميع، والعراق هو وطن الكل بلا استثناء، ولعلّي ألفت النظر هنا إلى ملاحظتين أساسيتين:
* أولاً: إن العلاقات المصرية- العراقية متكاملة وليست مصطدمة أو متنافسة، بل هي في نهاية الأمر تعبير عن نسيج حضاري مشترك وتكامل قومي لا يخفى على أحد، ويجب أن نتذكر أن الفلاح المصري، وهو شديد الارتباط بأرضه لم يغترب لسنوات طويلة وتمضي به الحياة في بلد عربي آخر مثلما جرى له في العراق، حيث عاش مواطناً مقبولاً في عصر صدام حسين وربما بعده.
* ثانيا: إن الدور القومي للعراق لا بد أن يستيقظ وعندما يتعافى ذلك القطر العربي المهم، فإنه سوف يمثّل إضافة قوية للعمل العربي المشترك والسعي نحو مستقبل أفضل لهذه الأمة التي قال عنها البعثيون: إنها أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة.
إن العراق الذي عرف الحجاج بن يوسف الثقفي وصدام حسين، إن العراق الذي خرج من بين أكراده البطل صلاح الدين الأيوبي، هو ذاته العراق الذي عرف سياسيين آخرين، إنه عراق المساجد والحسينيات، إنه عراق الأئمة والعلماء، عراق أصحاب السماحة وأصحاب الفضيلة.. أما آن له أن يعود رائداً في أمته، قوياً بعروبته، فاعلًا بإمكاناته الطبيعية والبشرية؟ وإذا كنّا نتذكر الحسين سيد الشهداء، فإننا لا نحمّل العراق الحديث ذنب تلك المأساة بل هي نتاج مؤلم للفتنة الكبرى في القرن الأول الهجري.. تحيّة للعراق العربي وسط أشقائه في منظومة قومية لا تنفرط أبداً.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دبلوماسي وباحث وأديب ومفكر ومؤرخ وكاتب، يمتلك خبرة واسعة في المجالات السياسية والثقافية ألَّف 36 كتابًا تسلط الضوء على بعض القضايا مثل الإصلاح السياسي والفكري القضاء على كل أشكال التمييز ضد الأقليات، والوحدة العربية والتضامن

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"