ربط التعليم بالتنمية لا بالسوق

02:56 صباحا
قراءة 3 دقائق
عبد الإله بلقزيز

يطغى في بعض الخطاب الليبرالي في بلادنا العربية -وفي العالم كله- استخدام كثيف لمقولة «ربط التعليم بالسوق». والمقولة هذه خاطئة؛ بل هي في غاية السوء لما يتولد من القول بها، والعمل بها، من إفقار لمعنى التعليم ومضمونه ووظائفه العلمية والاجتماعية، والهبوط بمنزلته إلى مجرد تلبية حاجات مادية استهلاكية. وأول ما تعنيه المماهاة بين التعليم والسوق تسليع التعليم وإدخاله في قمقم الاقتصاد الاستهلاكي وبالتالي، التطويح بكل الإمكانيات المعرفية والعلمية التي يضمرها، ويعول عليها، وتنميطه في قوالب من التكوين جاهزة: تقديم الخبرة العملية.
لا شك في أن القول ب «ربط التعليم بالسوق» يلحظ حاجتين موضوعيتين فرضتا نفسيهما؛ أولاهما الحاجة إلى إفساح مساحة أكبر، في برامج التكوين التعليمي، للمعارف العملية القابلة للاستخدام الاجتماعي (الاقتصادي خاصة)؛ وثانيهما الحاجة إلى تعليم يوفر تأهيلاً تستوعبه حاجيات السوق و بالتالي، يوفر وظائف عمل، في القطاعين العام والخاص، يمتص بها المجتمع بعضاً من ضغوط البطالة عليه. على أن تأسيس رؤية إلى التعليم، وهندسة لبرامجه وتكويناته، في ضوء الحاجتين تينك تصطدم بجملة من الحقائق منها:
أن المعارف العملية، التي يُسعى إليها تحت عنوان المقولة تلك، لا تعدو أن تكون خبرات وسائلية فحسب؛ تُلقن من دون أن تصنع ذهنية علمية لدى متلقيها. إنها غير المعارف العلمية العملية التي ينتج تلقينها ذهناً علمياً. وآي ذلك أن «ربط التعليم بالسوق» قصير النفس في برمجته، وهو في أفضل أحواله يؤهل أطراً صغرى ومتوسطة، ويُلقن خبرة لا علماً، ويستغرق تكوينه فترة زمنية محدودة. أين، إذن، ذلك التعليم الذي ينتظر منه المجتمع إنتاج عقوله من العلماء، والأطباء، والمهندسين، والفلاسفة، وعلماء السياسة والقانون، وعلماء الاجتماع والأنثروبولوجيا، وعلماء النفس...إلخ؟
هذه واحدة؛ الثانية أن للمعارف النظرية -عكس ما يعتقد ربَطة التعليم بالسوق- أجزل الفوائد في أي مجتمع. حتى الذين يتلقون خبرات عملية لا يمكنهم أن يتحصلوا تكويناً رصيناً، على التحقيق، من دون علم منهم بالأصول النظرية لتلك المعارف التي صارت خبرات. خذ الاقتصاد، مثلاً؛ إنه علم ذو أصول نظرية، في المقام الأول، قبل أن يصير تطبيقات حسابية، ومَن ليس يملك معرفة بها ليس يعد في زمرة الاقتصاديين. وقل ذلك عن علوم أخرى طبيعية واجتماعية.
أما الثالثة فتكمن في أن دعوى «ربط التعليم بالسوق» إنما هي دعوى محمولة على حامل ظرفي هو صعود القطاع الخاص، وانفلات اقتصاد الخدمات من أي عقال في العالم. والحامل/العامل هذا فرض خطابه «الاقتصادي»- السوقي الاستهلاكي- ونجح، عبر ممثليه في مراكز السلطة، في فرض تسخير النظام التعليمي لمصلحته في تكوين الأطر العاملة في مؤسساته ومجالاته الخدمية. هكذا انتقلنا معه- انتقالة دراماتيكية- من خطاب الدولة، الاقتصادي والإنتاجي والتنموي، إلى خطاب المقاولة الربحي والاستهلاكي.
من البين، إذن، خطل هذه المقولة الطفيلية، خاصة حين يسري مفعولها في بلدان لم تبن بعد- مثلما بنَت بلدان الغرب- قاعدتها الصناعية الإنتاجية ولم تدخل، بعد، في طور إنتاج التّقانة (التكنولوجيا)؛ بل ما زالت ترزح تحت نير روابط التبعية الاقتصادية مثل بلداننا العربية. والأسوأ من هذا كله أن الخبرات العلمية العالمية العربية، التي تأهلت في أنظمتنا التعليمية وفي مجالات التأهيل العلمي كافة، لا تستفيد اقتصاداتنا من مؤهلاتها العلمية لأنها اقتصادات طفيلية صغيرة لا تبحث إلا عن نظيرتها من خبرات السوق الصغرى، الأمر الذي يدفعنا ثمن ذلك في صورة هجرة كثيفة للخبرة العلمية إلى الخارج بحثاً عن فرص للعمل المناسب. وهكذا تمثل مقولة «ربط التعليم بالسوق» الحجر الأساس في صرح النزيف العلمي المخيف.
هل من حاجة، إذن، إلى القول إن العلاقة الأصح، التي ترد على العلاقة الوهمية بين التعليم والسوق، هي التي تعبّر عنها المقولة التالية: «ربط التعليم بالتنمية»؟ ولن ندخل، هنا، في تمييز نظري بين مفهومي التنمية والسوق؛ بين سعة الأول ومحدودية معنى الثاني، لكن يكفينا أن ننبه إلى أن التنمية، اليوم، باتت مفهوماً يسع مستويات الحياة كافة، أي ما صار يُعبّر عنه باسم التنمية الإنسانية، لا التنمية الاقتصادية حصراً. وهكذا، فالتنمية المطلوب من النظام التعليمي أن يسهم في صنعها هي التنمية التي تشبع الحاجات الماديّة والمعنوية للمجتمع كافة وللناس في هذا المجتمع: حاجاتهم إلى المعرفة، إلى الصحة البدنية والمعنوية، إلى العمل، إلى العيش الكريم، إلى اكتساب أسباب التقدم، وإلى الرفاه. إنها التنمية التي تتفتق بها طاقات الإنسان الخلاقة وينتهض بها المجتمع.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"