حجر الأساس والملك فؤاد

05:51 صباحا
قراءة 4 دقائق

قضيت جزءاً من دراستي في مدينة دمنهور، وعكفت سنوات على زيارة مكتبة البلدية الشهيرة بشكل يومي، وارتبطت دوماً بقطعة من الرخام على المبنى التاريخي الأنيق مكتوب عليها (وضع حجر الأساس لهذا المبنى صاحب الجلالة الملك فؤاد الأول) في أحد أعوام النصف الأول من ثلاثينات القرن العشرين، ورغم أننا كنا في قلب العصر الناصري الرافض بشدة لكل ما كان قبل ثورة 23يوليو ،1952 ورغم إيماني في ذلك الوقت بفكر عبد الناصر وطموحاته وسياساته إلا أنني كنت مشدوداً دائماً لتاريخ الأسرة العلوية بدءاً من المؤسس الكبير محمد علي والفاتح إبراهيم باشا أبو العسكرية المصرية وسعيد باشا صديق الفلاح صاحب اللائحة السعيدية، وإسماعيل باشا قائد ثورة التحديث والعمران الذي كان يطمح في أن يجعل من عاصمة حكمه جزءاً من أوروبا، وصاحب الحفل المهيب لافتتاح قناة السويس، وعباس حلمي الثاني بميوله الوطنية وتأرجحه بين أقطاب الحياة السياسة في عصره، كما أن الملك فؤاد الأول رغم جهامته وضعف لغته العربية قد أسدى للوطن المصري خدمات رفيعة في مجال العلم والثقافة أتذكر منها جامعة القاهرة وعدداً من المتاحف في القاهرة والإسكندرية فضلاً عن الجمعيتين الملكيتين التاريخية والجغرافية وغيرها من الإنجازات المبهرة في العصر الذي شهد ثورة ،1919 والصراع بين الملك والبرلمان في جانب وبين الزعامة الشعبية في جانب آخر، متمثلة في القيادة التاريخية لحزب الوفد وعلى رأسه الزعيمان الكبيران سعد زغلول باشا ومصطفى النحاس باشا .

كما أن الملك فاروق ذاته رغم فساده الشخصي، كان وطنياً حتى النخاع يكره الإنجليز ويضيق بالاحتلال ويتحمس لدخول جيشه حرب فلسطين، لذلك فإنني أدعو إلى نظرة عادلة لتاريخنا كله بحيث لا تسقط منه أحقاب ولا تضيع في زحامه عهود وفترات، وأنا لست درويشاً يقلب صفحات التاريخ بلا وعي فأنا أدرك حجم خيانة الخديوي توفيق وانحطاط الخديوي عباس الأول من قبله، ولكنني أعلم أيضاً أن أمراء ونبلاء وأميرات ونبيلات من الأسرة العلوية قد شاركوا بقوة في تنمية المجتمع المدني المصري في مرحلة مبكرة، ألم يكن الأمير عباس حليم قيادة عمالية بارزة؟ ألم يكن الأمير يوسف كمال معنياً بنشر الفنون الجميلة؟ ألم يكن الأمير عمر طوسون مؤرخاً وزارعاً وسياسياً؟، وما زال سكان حي مصر الجديدة يتذكرون أن مستشفى هليوبوليس هو مستشفى الأميرة فريال أصلاً، وعندما أصابتنا لعنة العبث بالتاريخ وتشويه الماضي بتعميم مطلق أصبحنا أسرى الأحادية في التفكير إلى جانب ضعف الوعي وغياب الرؤية، لأنه لا مستقبل لمن لا تاريخ له، ورغم اعترافي بقامة عبد الناصر الوطنية وبراعة السادات السياسية إلا أنني أرفض الاستسلام لمنطق كان يرى أن مصر ولدت في 23 يوليو ،1952 وأن ما قبلها كان سواداً كله، وأن ما بعدها صفحة بيضاء ناصعة بغير عيوب أو خطايا وهو ذات الأمر الذي يدفعني الآن رغم حماسي لثورة 25 يناير من يومها الأول لكي أرفض أيضاً اعتبار ذلك التاريخ هو الميلاد الحقيقي للشعب المصري، فهو أقدم وأعرق وأكبر من ذلك، لا بأس أن نشيد بالثورة ولكن لا مبرر للمساس بالدولة .

وأنا أريد أن أقول هنا صراحة إنني غير مستريح للطمس الكامل لعقود الفساد والاستبداد، فهي بكل ما لها وما عليها جزء لا يتجزأ من تاريخنا وقطعة من حياتنا لا يمكن إنكارها أو القفز عليها وتصويرها كأنها لم تكن، وأنا لا أتصور مثلاً أن مبنى وضع حجر أساسه أو افتتحه الرئيس السابق نقوم نحن الآن بالمنطق العفوي للثورة بتغيير رخامة الاحتفال وطمس اسم رئيس الدولة حينذاك، ولقد كان يضايقني كثيراً أن أرى صورة الملك فاروق في الأفلام ذات اللونين الأبيض والأسود وقد جرى الشطب عليها نفاقاً لثورة 1952 ومجاملة لثوارها، فالتاريخ أيها السادة هو التاريخ، نقول في إطاره ما نشاء وننتقد ما نريد ونرفض ما لا نرضى عنه، ولكن شطب مراحل منه أو إعطاءها مساحة أقل من طولها الزمني هي عملية عدوان على العقل المصري وحرمان للأجيال المقبلة من أن ترى حاضرها بمنظار آبائها وأجدادها، فالتاريخ لا يندثر بل هو يستمر ويتواصل، لذلك فإنني أتعجب ممن يحاولون إحداث قطيعة بين مراحله المختلفة لمجرد رفضهم لعهد معين قائلاً لهم بوضوح إن التاريخ يغير نفسه أحياناً ولكن بطرق مختلفة وليس بالضرورة وفقاً لنمط واحد، فالتاريخ داهية يعلّم الناس العبر ويلقنهم الدروس ويعطي من لا يفهم عظات خفية، ولكن يبقى الوطن في النهاية ثابت الأركان متواصل العهود ويهمني أن أشير إلى ما يأتي:

1 إن التراث الإنساني جزء لا يتجزأ من تاريخ الأمم وماضي الشعوب فتاريخ الطغاة والبغاة والغزاة يقف جنباً إلى جنب مع تاريخ العظماء والأبطال والشهداء والفارق بين المجموعتين يكون في نظرة التقويم وأسلوب المراجعة الموضوعية لصفحات كل منها من دون افتئات أو تجاوز .

2- إن النظرة إلى اللوحة الفنية عن قرب لا تظهر جمالها بل قد تبرز عيوبها حيث تبدو الرتوش المتناثرة بغير نسق مريح، ولكن الابتعاد قليلاً عنها يعطيها روعة في المنظر ورونقاً في التأثير حيث تختفي الرتوش الصغيرة ويظهر المشهد بشكل مختلف، ونفس الأمر ينسحب على الأحقاب التاريخية وليس معنى ذلك أن الفاسد يصبح صالحاً أو أن الأحمق يتحول إلى عاقل، ولكن الأمر الذي لا جدال حوله هو أننا كلما ابتعدنا عن فترة زمنية معينة كنا أقدر على الحكم عليها وإعادة اكتشاف عناصرها وأبعادها، فمعاصرة الأحداث تلقي على كاهل المؤرخين قدراً كبيراً من التأثير الشخصي والانحياز الطبيعي، بينما التحليل من بعيد قد ينصف مظلوماً وقد يكشف خائناً وفي الحالتين يعيد التوازن إلى النظرة الموضوعية عند قراءة التاريخ .

3- إن حواري التاريخ وميادينه حافلة بشخصيات في الظل لم يدرك أحد آثارها ولن نكتشف خلفياتها إلا بعد حين، إنها قطعة الرخام على مبنى البلدية في مدينة دمنهور يزينها اسم الملك فؤاد -بما له وما عليه - ولكنها قطعة غالية من تاريخ مصر .

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دبلوماسي وباحث وأديب ومفكر ومؤرخ وكاتب، يمتلك خبرة واسعة في المجالات السياسية والثقافية ألَّف 36 كتابًا تسلط الضوء على بعض القضايا مثل الإصلاح السياسي والفكري القضاء على كل أشكال التمييز ضد الأقليات، والوحدة العربية والتضامن

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"