اللاعقلانية السياسية

04:18 صباحا
قراءة 3 دقائق

حسام ميرو

سادت، ولا تزال، حالة من اللاعقلانية في حقل السياسة العربي، خصوصاً فيما يتعلق بالقضايا الكبرى والمفصلية، والتي تترتّب على المواقف منها نتائج طويلة المدى، وتكريس لوقائع جديدة، قد يكون من الصعب تغييرها مع الزمن، ويمكن القول إن تلك اللاعقلانية في السياسة هي نتاج منظومات متأخرة في النظر والتحليل السياسي، بحيث إنها لا تقوم فعلياً على رؤية مطابقة للواقع، وغالباً ما تتصف بدرجة عالية من النرجسية، وتقدير خاطئ للذات، وتنطلق في بعض تقديراتها من حسابات كمية مجرّدة، لا ترتبط مع بعضها البعض بعلاقات، ما يجعلها فاقدة لأي أثر نوعي.
ما ينطبق على مواقف الأنظمة حيال القضايا الخارجية ينطبق أيضاً على مواقفها من القضايا الوطنية الداخلية، كما أن مواقف المعارضات السياسية هي الأخرى لا تقل عن مواقف الأنظمة في لاعقلانيتها السياسية، مع الأخذ بعين الاعتبار الفارق النوعي بين ما تحوزه الأنظمة من سلطات ونفوذ وبين ما تفتقده المعارضات من إمكانات، في ظل غياب مناخات ديمقراطية تنافسية، لكن السمة العامة لغياب العقلانية السياسية تبقى لصيقة بمجمل الفاعلين السياسيين في العالم العربي.
خلال السنوات الماضية، وفي ظل سياق التغيير في بلدان عربية عدة، ظهرت بوضوح حالة اللاعقلانية السياسية، والتي تجلّت في مظهر رئيس، وهو المسافة الشاسعة بين المواقف المعلنة وبين الروافع العملية لتحقيق تلك المواقف، وكأن الغاية الأساسية للفاعلين السياسيين هي تثبيت مواقفهم تجاه الآخر أكثر من أن يكونوا مهتمين فعلياً بعملية التغيير، أو تحقيق أهدافهم السياسية التي يعلنونها، وقد جرّ هذا السلوك الأنظمة والمعارضات معاً إلى اتخاذ مواقف لا تتصل بالمواقف الرئيسية التي رفعوها، بل إنها تتناقض معها من حيث ما آلت إليه من نتائج.
ويشكّل المثال السوري نموذجاً واضحاً لتجلي اللاعقلانية في حقل السياسة، بحيث إن مجمل الأطراف المنخرطة في الصراع السوري، المحلية من نظام ومعارضة، والخارجية من دول إقليمية وغربية، مارست- بهذا القدر أو ذاك- سلوكيات تتنافى مع أبسط مبادئ العقلانية السياسية، وقد اصطدمت في نهاية المطاف بحالة كارثية، هي نتيجة طبيعية لمحصلة عدد من التفاعلات اللاعقلانية، إذ ليس من المتوقع أن تؤدي الحسابات الخاطئة إلى نتائج صحيحة، خصوصاً في ظل تمسك مختلف الأطراف بمواقفها، من دون تكليف نفسها بإعادة تقييم سياساتها.
لقد راهن النظام السياسي في سوريا على حسابات كمية مجردة من أي معنى في مواجهة «انتفاضة شعبية» في 2011، ومنها أعداد المنتسبين إلى حزب البعث، وتعداد القوى في الجيش والأمن، وأعداد الموظفين في أجهزة الدولة المختلفة، ولم ير إلى ما يمكن أن تحدثه المواجهة مع قوى شعبية من انقسامات حادّة في المجتمع السوري، والتي ستجعل من حساباته الكمية قاصرة عن تحقيق هدف إخماد تلك «الانتفاضة»، ومن دون أن يكلّف نفسه في البحث عن أسبابها العميقة، أو محاولة إيجاد سبل سياسية حقيقية لحل المأزق الوطني الذي وصلت إليه البلاد.
إن أبسط مبادئ العقلانية كانت تفترض من النظام السوري أن يقرأ الحاجة الماسّة لدى المجتمع في إحداث تغييرات جوهرية، وخصوصاً لدى جيل الشباب اليائس والمحبط من انتشار الفساد والبطالة واتساع الهوّة بين مخرجات التعليم ومتطلبات سوق العمل، في ظل بلد متأخر صناعياً، وغير قادر على استيعاب الأعداد المتزايدة من الخريجين من المعاهد والجامعات، وتمدد سطوة الأمن على مفاصل الحياة العامة، وغياب المنابر الحرّة للتعبير عن الرأي، واحتكار حزب البعث للسلطة منذ عام 1963.
وبالمقابل، فإن قوى المعارضة السورية التي انتشت بالمظاهر الأولى للانتفاضات في العالم العربي، ومن ثم في سوريا، اعتمدت في تقديرها لقوتها وقدرتها على عوامل من خارجها، فمعظم قوى المعارضة السورية كانت في 2011 منهكة داخلياً، ولا توجد فيها مؤسسات قادرة على التعاطي مع حدث نوعي كبير بحجم «الانتفاضة»، لذلك مضت نحو كسب شرعيتها بالدرجة الأولى من تأييد الخارج لها، من دون أن تضع حدّاً فاصلاً بين مصالحها الوطنية ومصالح الجهات الإقليمية أو الدولية الداعمة لها، فأصبحت الطرف الأضعف في التحالف الذي يجمعها مع تلك القوى.
إن ما جرى خلال الأعوام الماضية في عموم منطقة الشرق الأوسط ينبغي أن يؤسس إلى سياسات عقلانية في التعاطي السياسي، وأن يوجد منظومة مفاهيمية جديدة، لإدراك المسافة الواسعة بين الشعار السياسي وبين الروافع الممكنة من أجل تحقيقه.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

إعلامي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"