الحالة الأوروبية تزداد تعقيداً

05:17 صباحا
قراءة 4 دقائق
جميل مطر

اسمها معقد، ولعلي منذ مدة طويلة لم أسمع اسماً صعب كهذا لواحدة من المشاهير في عالم صار وثيق الاتصال، أكتب عن آنجريت كرامب كارينباور وزيرة الدفاع الجديدة في حكومة ألمانيا. لم أعرف عنها الكثير قبل توليها منصبها، وأعترف بأن اسمها كان أول ما أثار فضولي تجاهها، إذ تردد وقتها، في أعقاب الإعلان عن نتائج آخر انتخابات تشريعية، وفي خضم مناوشات حزبية، أن امرأة قد ترث منصب أنجيلا ميركل مستشارة لألمانيا. هذا المنصب لا يعلوه درجة إلا منصب فخري لرئيس البلاد. لا أخجل من القول: إنني أجلت البحث في سيرتها الذاتية ومسيرتها السياسية إلى حين تقرر ميركل أن موعد رحيلها عن المشهد البرليني قد أزف. تخيلت أن المستشارة لن تعلن الرحيل قبل أن تكون قد اطمأنت إلى أن آنجريت أكملت تدريبها، وصارت جاهزة لقيادة حزب ودولة بوزن ألمانيا في ظرف دقيق.
ذات يوم قبل أسابيع قليلة فوجئ المجتمع الدبلوماسي في العاصمة واشنطن بخبر يهمس بوصول آنجريت كرامب كارينباور. قضت في المدينة وقتاً قصيراً، ولكنه كافٍ لإثارة الفضول. لم تطلب لقاء مع نواب أو شيوخ في الكونجرس، لم تلقِ خطاباً أو محاضرة في مركز للبحوث الاستراتيجية، أو شاركت في عصف فكري كعادة الزوار الرسميين من هذا المستوى. لم تعقد مؤتمراً صحافياً أو تقيم مقابلة تلفزيونية. نزلت بالعاصمة الأمريكية، ورحلت في صمت في وقت يغلب عليه التوتر، فلماذا نزلت؟ وماذا فعلت؟ استسهلنا المهمة فطرقنا الباب الأقرب، وأجبنا عن السؤال بأنفسنا. آنجريت وزيرة دفاع جديدة، وفي واشنطن وزير دفاع جديد يدعى مارك آسبر، ومن لوازم اللياقة والزمالة طلب زيارة له في واشنطن للتعارف، وإن أمكن وسمح الوقت فليحدث أو تجري مناقشة ما يتجاوز بالمقابلة هدف التعارف، فالقضايا عديدة.
القضايا بالفعل عديدة والمرحلة صعبة، والجو الدولي مشحون بتوتر يشك بعض الناس أن بعضه متعمد. عدد من القضايا موجود معنا منذ زمن، قضايا روتينية الطابع وقابلة للتأجيل من مؤتمر إلى مؤتمر يليه، ومن اجتماع إلى آخر. مثلاً، أصبحنا ننتظر اجتماعات حلف الأطلسي واجتماعات أخرى لدول الغرب لنسمع سيل الانتقادات الذي يطلقه الرئيس دونالد ترامب في وجه الأوروبيين عامة، وبخاصة الألمان، هؤلاء الحلفاء الذين لا يدفعون النسبة المقررة عليهم سنوياً إلى موازنة الدفاع الغربي.
واقع الأمر في الحلف الغربي، الذي يفترض أن تكون أمريكا قائدته، أن قضايا عويصة ترفض أي حل تقليدي من الحلول، التي تعود عليها القائمون على إدارة الحلف. الصين مثلاً واحدة من هذه القضايا، إذ إنه حتى يومنا هذا لم يحدث اتفاق أو توافق أو حتى فهم مشترك بين أعضاء الحلف على سياسة دفاعية موحدة تجاه الصين.
واقع آخر في أمر الحلف الغربي هو الموقف من روسيا. لا أتصور أن أحداً من مفكري الغرب المتخصصين في استراتيجيات الصراع والتوازن استطاع فيما كتب أن يرسم لي، ولغيري من المتابعين المهتمين، لوحة واضحة تشرح لنا طبيعة العلاقة الراهنة بين حلف الأطلسي وروسيا. هناك الموقف المعقد منذ تدخلت روسيا في النزاع داخل أوكرانيا قبل أن تنتهز الفرصة وتضم شبه جزيرة القرم، أو تعيدها، إلى الوطن الروسي. حدث هذا وغيره قبل أن تولي موسكو جل اهتمامها إلى الشرق الأوسط نزولاً من تركيا وانتهاء بدول في منطقة الخليج. لن نغوص في التفاصيل، وهي وفيرة وعميقة ومعقدة ومتشابكة في آنٍ واحد، يكفي أن نتأمل إحدى آخر ثمار العلاقة الراهنة بين حلف غربي منقسم على حاله يفترض أن تكون له مصالح في الشرق الأوسط وروسيا الزاحفة بكل ترسانة القوة الصلبة والقوة الناعمة على حد سواء. أقصد بالثمرة هذا القطاع العربي المهم استراتيجياً الذي اقتطعته تركيا من سوريا مستفيدة من انسحاب أمريكا ودعم روسيا وكلاهما، كما يتردد في بعض عواصم الغرب والخليج وفي «إسرائيل»، بترتيب مسبق. الثمار الأخرى ظاهرة أيضاً للعيان وحان أوان قطفها.
سمعنا وقرأنا أن آنجريت ربما أرادت بزيارتها شبه المتكتم عليها إلى واشنطن تهيئة وزير الدفاع الأمريكي الجديد لأجواء الإعلان في نيويورك عن إنشاء «الحلف الأوروبي».. أخيراً في ما يبدو خرج الفرنسيون والألمان إلى العلن بفكرة تحقيق الاستقلال الذاتي الاستراتيجي لأوروبا، قيل إن الوزيرة الألمانية من أشد المتحمسين للفكرة التي يروج لها بحماسة هايكو ماس زميلها في الحكومة المسؤول عن السياسة الخارجية. الفكرة بطبيعة الحال لا تروق لواشنطن، لأنها لو تحققت حلفاً دفاعياً أوروبياً مكتمل الأركان لنسفت ما تبقى من دعائم للحلف الأطلسي. أتفهم، مثل كثيرين، دفاع المسيو لودريان وزير خارجية فرنسا عن الفكرة عندما قال: إنها نشأت لمواجهة هؤلاء الذين يدمرون النظام الدولي. يقصد بطبيعة الحال إدارة الرئيس دونالد ترامب التي لم تترك بنية للتعاون الدولي أقرتها الدول العظمى في أعقاب الحرب العالمية الثانية إلا حاولت تدميرها.
أوروبا بفكرتها الدفاعية الجديدة تهدف، حسب رأيه ورأي ماس، إلى وقف مسيرة «التوحش»، التي يندفع نحوها النظام الدولي الراهن. أتفهم الرأي القائل بأن السياسة الدولية تتوحش والمستفيد من هذا التوحش الدول العظمى، أمريكا وروسيا والصين.
أمام هذا الفريق الأوروبي مهمة صعبة، فالقوى الثلاث العظمى لن ترحب بمشروعه، ولن تكون وحدها، ففي العالم الثالث دول كثيرة لن ترمي بثقلها لمصلحة أوروبا متحملة غضب الدول الأعظم.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دبلوماسي مصري سابق وكاتب متخصص بقضايا العلاقات الدولية. اشترك في تأسيس مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بمؤسسة الأهرام. وأنشأ في القاهرة المركز العربي لبحوث التنمية والمستقبل. عضو في مجلس تحرير جريدة الشروق المصرية ومشرف على صفحة الرأي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"