الرواية والأسطورة

05:22 صباحا
قراءة دقيقتين
علاء الدين محمود

نشأت الأسطورة من محاولات الإنسان إقامة علاقة مع الطبيعة من حوله، كانت تلك هي أول محاولة لتفسير الأشياء والظواهر، وعبرت عن اشتغال فكري محدود الأدوات عالي الخيال، وهو ما جعل الأدب يحتضن الأسطورة بكل رحابة وحماس، فالملاحم الشعرية القديمة كلها نهضت على تلك القصص الخيالية والميثولوجيات، وشكلت تلك الملاحم المادة الأدبية والفكرية التي قام عليها المسرح، فقد كانت تلك المحكيات جاذبة جداً فاستقبلتها كل الأجناس الأدبية التي سادت.

ورغم أن فن الرواية يعتبر حديثاً قياساً بالأجناس الأدبية من شعر ونثر، إلا أن توظيف الأسطورة اشتبك مع هذا الجنس الإبداعي الذي احتضنه وصنع منه سرديات ممتعة. ولأن التاريخ العربي حافل بتلك الأساطير والمحكيات الخرافية القديمة، كان لابد أن تستلهمه الرواية العربية الحديثة، إلى جانب تأثرها بالسرد اللاتيني الذي وظف الأساطير، وصار يشتهر بما يعرف بالواقعية السحرية كبصمة خاصة به، غير أن التراث العربي قد عرف الأسطورة، بل وكذلك وجد توظيفاتها في الحياة الاجتماعية قبل الأدبية، مثلما كان يعرف ب«سجع الكهان» في عصور ما قبل الإسلام، وهي ممارسة تتم فيها الطقوس الغريبة بملمح شعري أو نثري، ثم عمل أبو العلاء المعري على تكريس ذلك التوظيف بشكل إبداعي مميز في «رسالة الغفران»، ثم تناسلت مثل تلك المحاولات، ونشأت قصص وحكايات عربية تقوم في أساسها على الأسطورة مثل «ألف ليلة وليلة».

ومع بدايات نشوء السرد العربي الحديث، كان هذا التوظيف للميثولوجيا حاضراً في الأعمال المؤسسة، وهذا الأمر قد أشبعه بحثا الدكتور نضال صالح في مؤلفه الثمين «النزوع الأسطوري في الرواية العربية المعاصرة»، ولعل عنوان الكتاب نفسه الذي تصدرته كلمة «نزوع»، يشير بقوة إلى ذلك الميل للرواية العربية في بداياتها نحو تمثل التراث والأسطورة، فمنذ نهاية الأربعينات من القرن الماضي، كان هنالك اتجاه نحو استدعاء الموروث في الرواية من أجل خلق مواجهة مع الأوضاع الاجتماعية والسياسية في العالم العربي.

وقد رصد الكتاب عدداً من الأعمال الروائية الكبيرة والمميزة، التي صنعت حالة سردية مستمدة من الفضاء الأسطوري، منها: رواية «عودة الروح» لتوفيق الحكيم التي تتحدث عن الأساطير المصرية القديمة فيما يتعلق بالموت والحياة، وكذلك رواية «إيزيس وأوزوريس» لعبد المنعم محمد عمر، و«مارس يحرق معداته» لعيسى الناعوري، و«نرسيس» لأنور قصيباتي وغيرها، ثم كان التتويج والتناول الخلاق للتراث من قبل نجيب محفوظ، الذي أفردت له الكاتبة سناء شعلان دراسة كاملة بعنوان «الأسطورة في روايات نجيب محفوظ».

نجد اليوم أن الرواية العربية في العصر الحالي تتجه مرة أخرى نحو استلهام الأساطير في معالجة قضايا الإنسان العربي، في زمن التمزق والتشظي والاغتراب، وسيادة العزلة والوحدة والحياة الفردية.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

صحفي وكاتب سوداني، عمل في العديد من الصحف السودانية، وراسل إصدارات عربية، وعمل في قنوات فضائية، وكتب العديد من المقالات في الشأن الثقافي والسياسي، ويعمل الآن محررا في القسم الثقافي في صحيفة الخليج الإماراتية

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"