«أوروبا جديدة».. مأزق و«حلم» ماكرون!

05:29 صباحا
قراءة 4 دقائق
محمد عبدالقادر خليل *

كأن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يخوض غمار انتخابات يدافع فيها عن مستقبله السياسي، الذي واجه العديد من التحديات بسبب أزمة «السترات الصفراء»، التي لا تزال تؤثر ارتداداتها في خطابه وتصريحاته، وذلك حينما أعلن مشروعه السياسي، الذي يتجاوز فرنسا وواقعها للاتحاد الأوروبي وأزماته، واضعاً «خريطة طريق» لأوروبا الجديدة في رسالته التي حملتها أربع صفحات، وتمثل الثالثة من نوعها، إذ سبق له طرح رؤيته بشأن مستقبل الاتحاد الأوروبي بصيغ مختلفة خلال العامين الخاليين.
أطروحة ماكرون في 2019 تبدو مغايرة، كونها جاءت شاملة ووٌجهت بالأساس إلى مواطني 28 دولة، وذلك استباقاً للانتخابات الأوروبية المقررة في 26 مايو(أيار) المقبل، والتي من شأنها أن تحدد ملامح أوروبا المستقبلية. كما أنها توضح أن الرئيس الشاب الحالم بانبعاث جديد للاتحاد الأوروبي- رغم عثراته - لم يتراجع عما سبق وطرحه في خريف 2017 أو مايو (أيار) 2018.
اقتراح ماكرون يقوم على التأسيس لمشروع متفق على نهوضه على ركائز الدفاع عن الحرية والرأي والإبداع والنظام الديمقراطي بتأسيس «وكالة أوروبية لحماية الديمقراطيات»، منوط بها توفير الخبرات لأي بلد أوروبي، على أن تمنع هذه الوكالة عمليات التمويل الخارجية التي تستهدف الأحزاب الأوروبية المختلفة للتأثير في سياساتها حيال الاتحاد ومسيرته الوحدوية، وتناط بها أيضاً مكافحة خطاب الكراهية والعنف عن الشبكة العنكبوتية، وذلك في تحرك وقائي يستند على ما يبدو إلى أنماط التدخلات الروسية التي تتهمها جهات غربية بمحاولات التأثير في نتائج الاستحقاقات الانتخابية في أكثر من بلد أوروبي.
مشروع ماكرون المتأثر بأزمته الداخلية الأخيرة يشمل أيضاً إقرار «مبادرة اجتماعية» تضمن حداً أدنى للرواتب، على أن تراعي ظروف كل بلد على حدة، ويدعو لإنشاء وكالة أوروبية للرعاية الصحية، والعمل بمبدأ «التضامن الأوروبي» وحماية مصالح الاتحاد الاقتصادية والاستراتيجية، وإقامة شراكة مع إفريقيا التي تمثل نقطة انطلاق أكثرية المهاجرين إلى بلدان الاتحاد الأوروبي.
وفي محاولة لاكتساب دعم سياسي لخططه، يدعو الرئيس الفرنسي إلى مجابهة التهديدات التي تسهم في تصاعد شعبية تيارات اليمين الأوروبي، وذلك بتشديد إجراءات حماية الحدود الأوروبية، عبر إعادة النظر باتفاقية شنغن، التي ألغت الحدود الداخلية بين الدول الموقعة عليها وعددها 22 دولة، بحيث لا تشمل إلا الدول التي تلتزم بالرقابة المشددة على الحدود، وتعمل وفق قاعدة المسؤولية التضامنية، فيما يخص التعاطي مع قضايا المهاجرين واللاجئين، مشترطاً أن يكون ذلك تحت إدارة «المجلس الأوروبي للأمن الداخلي».
وتبدو النقطة الأكثر جدلاً ربما على الصعيد الدولي، وليس الأوروبي وحسب، تتعلق بدعوته لإيجاد آلية لضمان أمن أوروبا لا تنبني على التعاون مع الولايات المتحدة الأمريكية، وإنما تستند إلى إبرام معاهدة للدفاع الأوروبي المستقل تشمل بريطانيا، رغم البريكست، من أجل إنشاء جيش أوروبي موحد لا يتبع حلف الناتو، ولا يقوم على الشراكة عبر الأطلسي.
لذلك، فمشروع ماكرون في شكله العام يبدو شاملاً، غير أنه في مضمونه مشروع مهموم بقضايا أمن أوروبا، وتصاعد أدوار الأحزاب المتطرفة وما تمثله من صعود لظواهر الانطواء القومي والتذمر من سياسات الاتحاد، وتجسد ذلك في قوله «لا يمكننا السماح للقوميين الذين ليست لديهم حلول باستغلال غضب المواطنين». وعلى الرغم من ذلك فمن المنتظر أن تثير مقترحاته جدلاً واسعاً، لاسيما أن الدعم الألماني للموقف الفرنسي، لا يمثل سوى اتفاق نسبي على ما حمله مشروع ماكرون من طموحات عريضة.
ونقطة التلاقي الرئيسية بين الجانبين تتعلق بقضايا الأمن الأوروبي، سواء ارتبط ذلك بقضايا اللاجئين أو ملف الدفاع الأوروبي المستقل عن حلف الناتو. بيد أنه في مقابل ذلك، تلقى طروحات ماكرون الدفاعية معارضة واسعة من قبل الكثير من البلدان الأوروبية التي ترفض التخلي عن الحلف الأطلسي والمظلة النووية الأمريكية مقابل دفاع أوروبي غير موجود، كما تعارضه واشنطن ذاتها، وسبق للرئيس الأمريكي دونالد ترامب أن اعتبره «مهيناً».
كما تجابه خططه تحديات أخرى تتعلق بالوعكة الأخيرة التي عانتها علاقات بلاده مع إيطاليا على خلفية تصريحات نائبي رئيس وزراء إيطاليا لويجي دي مايو زعيم حركة خمس نجوم، المناهضة للمؤسسات وماثيو سالفيني صاحب الميول اليمينية المتطرفة، وانتقادهما لماكرون ودعمهما لمتظاهري «السترات الصفراء». وقد ترتب على ذلك أن استدعت فرنسا سفيرها من إيطاليا، على خلفية لقاء أجراه دي مايو مع شخصيات بارزة من حركة «السترات الصفراء»، والذين ينوون التقدم بمرشحين في انتخابات البرلمان الأوروبي. وغرد دي مايو عقب اللقاء قائلاً: «رياح التغيير عبرت الألب»، هذا فيما وصفت الخارجية الفرنسية ذلك «بالاستفزاز غير المسبوق منذ نهاية الحرب».
خطط ماكرون الوحدوية يجابهها بكل وضوح تصاعد حدة التصدعات التي بدأت تتعمق داخل القارة الأوروبية، هذا في وقت تتوقع فيه الكثير من التقديرات واستطلاعات الرأي العام، أن تبلي الأحزاب اليمينية والأحزاب القومية بلاء حسناً في انتخابات مايو (أيار) المقبل. لا ينفصل عن ذلك أيضاً تحديات تصاعد أدوار اليمين الشعبوي في إيطاليا، والمجر، والعديد من دول أوروبا الشرقية، وتراكم تصاعد إشكاليات «البريكست»، وفتور شركائه الأوروبيين لمجارات مشاريع فرنسا الأوروبية.
تتصل بذلك حالة الغضب العميق، التي تحوم حول بروكسل، فبالرغم من أن ملف «البريكست» أدى إلى تهدئة الحكومات المناهضة للاتحاد الأوروبي في القارة، إلا أن الهجوم ضد المؤسسية الليبرالية الأوروبية ما زال قائمًا. ويبدو أن مأزق ماكرون يتصل كذلك بتفاقم أزمة ديون إيطاليا والموقف الألماني منها، وتأرجح ميركل ذاتها بين تأييدها للمشروع الفرنسي ومحاولة إرضاء المحافظين المتشددين في الداخل، لاسيما أنها لا تبدي حماسة إلا لمشروعه الدفاعي في صورته الكلية وليس التفصيلية.
لذلك، فمشاريع ماكرون الحالمة، وإن كانت تستهدف وقف تقدم اليمين المتطرف في الانتخابات الأوروبية المقبلة، غير أنها مشاريع تأتي وصاحبها ذاته يعاني تراجع شعبيته على الصعيد الوطني، وهو ما قاله الرئيس الأمريكي ضمن سلسلة التغريدات التي تعرضت لمشروع الرئيس الفرنسي، وكذلك مع وجود كثير من التكهنات حول استمرار المستشارة ميركل في منصبها، واعتبار عدد من الدول الأوروبية أن حلف الناتو مكون عسكري كاف لصد أي تهديدات أمنية، ولذلك فإن مستقبل إنشاء جيش أوروبي موحد يشكل حالة من الضبابية نتيجة لاختلاف الرؤى والمصالح بين الدول الأوروبية، وهو ما ينسحب على كل خطط ماكرون التي يتحدث عنها للعام الثالث على التوالي، من دون أن تلقى آذاناً صاغية من قادة أوروبا.

* كاتب مصري

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"