القراءة ليست حلبة تنافس

03:12 صباحا
قراءة 3 دقائق
علاء الدين محمود

يبدو أن عصرنا الحالي بات يخضع تماماً لمنطق الأرقام، فالكتاب كحاضن للمعرفة ليس بمنأى عن قسوة مفردات العصر «استهلاك، سوق، تسليع»، فقد صار يخضع للمنطق التجاري، وبالتالي لأدواته والتي من ضمنها الديباجات والعلامات المروجة للسلعة، فتجد جملاً مثل: «الأكثر مبيعاً»، «الذي حصد الملايين» صارت تلك هي علامات الجودة التجارية، وفق معايير السوق والعرض والطلب، وليس وفق ما يراه القارئ أو الناقد أو الأكاديمي، فهؤلاء ينسحبون عن المشهد شيئاً فشيئاً، لأنهم لا يعبرون عن روح عصر الاستهلاك السلعي، ليحل مكانهم أشخاص يقومون ب«صناعة»، الكتاب الذي يدخل في قوائم «البست سيلر»، أي «الأكثر مبيعاً».
ولكن في الواقع فإن هذا الأمر ليس جديداً تماماً، فقد ظل معروفاً ومعمولاً به في أنحاء كثيرة من العالم، فمعظم دور النشر العالمية تضع مثل هذه القائمة التي دائماً يتصدرها كتاب معروفون، وكتب أجمع النقاد على جودتها، بل وحتى بعض الصحف العالمية كانت ترصد المؤلفات الأكثر مبيعاً وجودة مثل قائمة نيويورك تايمز لأكثر الكتب مبيعاً، حيث نشرت أول قائمة لها في عام 1895، وكانت تخضع لمعايير ويشارك فيها صحفيون ونقاد وأكاديميون.
غير أن الأمر بدأ يتجه نحو منعطف مختلف، وبمعايير غير التي كانت تعتمد، خاصة في العالم العربي فبدأ وكأنه صرعة جديدة، فبعض المؤلفات التي تحمل هذه الديباجة لا يعرف الناس عن مؤلفيها شيئاً، بل ولا حتى مضمون وموضوع الكتاب، حيث إن دور النشر تلعب دوراً كبيراً في هذه العملية فالقوائم غالباً غير حقيقية؛ أي أن هنالك صناعة معينة تتم في سياق تجاري بحت فدور النشر تتلاعب بهذه القوائم وفي عملية الطباعة وأعدادها، وبمجرد أن توضع على الكتاب عبارة «الأعلى مبيعاً»، فهو يجد على الفور إقبالاً من القراء، فهذه الكلمات هي بالضبط «العلامات التجارية»، الضامنة لانتشار ورواج السلعة من أجل العائد المادي الكبير.
والواقع أن بعض دور النشر خاصة الصغيرة تسعى نحو الكسب السريع، عبر توفير ما يريده الناس ويلامس مشاكلهم الحياتية والاجتماعية، فيتم التركيز على نوع معين من الأدب والمعرفة مثل «الجريمة، والرعب»، وتدخل ضمن ذلك العناوين الغريبة الصادمة، بل وتقوم الدور باستقطاب كتاب شباب من أجل كتابة أعمال تنتمي إلى هذه المواضيع، مما يشير بالفعل إلى وجود الصناعة، ويتم إعداد «النجم»، فالمؤلف نفسه يروج له عبر مواقع التواصل الاجتماعي، بالتالي نجد أنفسنا أمام جمهور للقراءة مختلف ويسهم في ذات الوقت في عملية الترويج التجاري تلك، الأمر الذي تنتج عنه نتائج لا تعبر عن الواقع؛ لذلك نجد أن الكتاب الحقيقيين لا وجود لهم إلا فيما ندر ضمن تلك القوائم.
إن أكثر الأشياء المؤسفة حقاً في وجود مثل هذه القوائم، أنها لا تعبر عن نتيجة توصلت إليها لجنة معتمدة ومفوضة، بل هي معدة سلفاً عن طريق تلك الطبخة التي تحدثنا عنها، كما أنها تصبح بمثابة «الجهة» التي تحدد للقارئ الكتب التي عليه أن يقرأها، فقد صار الناس يعتمدون بشكل كبير على هذه القوائم التي صارت لها سلطة، ولكن الأكثر سوءاً أن تصبح المبيعات دلالة على جودة الكتاب، وهذا بالطبع أمر لا ينتمي للأدب والمعرفة والثقافة، فالكثير من المؤلفات الجيدة ليست ضمن الكتب الأكثر مبيعاً لكنها تتفوق من حيث المضمون، بالتالي فإن ذلك يفتح الباب واسعاً لانتشار أدب زائف، لأن الوسائل والمعايير المتبعة في تحديد جودة الكتاب نفسها غير حقيقية، لذلك نجد ضمن هذه القوائم مؤلفات متوسطة المستوى، أو ضعيفة، مع قلة للكتب الجيدة والممتازة، والأخطر أن القوائم «بست سيلر»، تدرج القراءة ضمن عملية تنافسية، الأمر الذي ينتج عنه سيادة التسطيح وتزييف الوعي.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"