حدائق الروح ... أسوار الذات

02:20 صباحا
قراءة 3 دقائق
قال مولانا: يدخل جمل بيتاً صغيراً، فيخرب، لكنه في ذلك الخراب ألف كنز، يكون الكنز في الموضع الخرب، وفي مواطن العمران يظل الكلب كلباً (الرومي 185).عندما يصل جيش الحقائق لا بد من أن تدك أسوار الذات حتى لا يبقى من عمران أنا شيء، أسوار الذات هرمة نخرة لا تقوى على دخول جمل صغير هارب من صداء قافلة سائرة نحو الحق، ها هو الحداء يحطم كل شيء فيبدو فقر أنا ونحن دون ساتر أو حجاب، ولكن الهدم يحدث حيث الكنوز والخزائن مدفونة في الأرض، الهدم يوصل الى الغنى المطلق حيث لا أريد ولا احتاج وعندي كل شيء. أين أنت ايها الجمل الصغير فقد مللنا من عمراننا المتهالك المسنود الى قشة.حضارة القرن الحادي والعشرين مصرة على أن تبني الجدران المسلحة والأسوار الثقيلة فوق الكنوز والثروات المدفونة، قل لي كم جداراً تراه في حياتك أقل لك كم أنت ثري مؤجل، الثراء هنا ليس اسمنتياً لأنه ثراء روح وليس ثراء مادة.ها هي الحياة تثبت مرة بعد مرة أن الغنى الدنيوي لا يزيد على فقر مدقع، ترى ألا تكفينا الجدران والأسوار والعمران الذي لا ينتهي في حياتنا؟ الدنيا كلها قائمة اليوم ليس على ما تحتاج ويكفيك ولكن على ما لا تحتاج وتطمع ثم تطمع ثم فيه، والآن كيف يمكن للماء أن يظهر في أرض النفس وفوقها اثقال المادة لا تترك مسرباً واحداً؟ لا بد من الهدم حتى يظهر الماء، وتشرق الشمس ويهب النسيم.نحن اليوم نعيش على فائض من كل شيء، فائض من العمران والطعام والشراب والمواصلات وحتى العلم والتقنية، ومع ذلك نحن لانشبع ونطلب المزيد، جوعنا المجنون هذا يجعلنا لا نقف عند حد، حتى ولو كان هذا على حساب اعمارنا واعمار أولادنا، صرنا نتبارى في الانتحار ما دام في الدنيا من رخام يكفي لكل شواهد قبورنا، كفرنا بالأفق وبشروق الشمس وغروبها، وبالهواء والماء والعشب والشجر، ورحنا نصنع من خوابي الذهب جدراناً تقتل فينا الأنس والأطمئنان.في حياتنا ألف بئر مردومة، ألف نبع مهدوم، ثروات مدفونة لا متناهية، حب وحلم، وشوق وتوق، وكرم وعطاء، وتقرب وتواضع، ويقين وخشوع، وايمان واحسان، وأمل وتفاؤل، وطمأنينة وأمن، كل هذا طلقناه ولا نريده، ورحنا ندفنه تحت اثقال الجشع والطمع والمادة التي لا تفرخ إلا ملذات محدودة وعاقرة.والآن، وقبل أن يحين موعد افول شمسنا، هل يمكن أن نعيد حساباتنا؟ هل يمكن أن نشتاق للهواء الطازج يدخل الى صدورنا بدل غبار الرمل والاسمنت؟ هل يمكن أن نطلق التنافس والتنازع ونميل الى التقارب والتعاون؟ هل يمكن أن ننتبه الى أننا أكثر من مادة؟ أكثر من شهوات وغرائز؟ أكثر من طمع وجشع؟ سنوات أعمارنا على الأرض لا تحتاج الى كل هذا الذي نفعله ونبنيه، لا يمكن لأيام العمر أن تقيم بعدد المنجزات الاسمنتية فوق الشوق المسحوق والتوق المدفون، في ذلك العالم الذي نسيناه كان لكل امرئ صوته ولكل حيوان صوته ولكل نبات صوته ولكل جماد صوته، الأعمى الذي جاء للرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم ليتعلم دينه فُضل على أكابر قريش، الضب يسبح بيده عليه الصلاة والسلام، وحماره ينتحر بعد وفاته صلى الله عليه وسلم، جذع الشجرة الذي كان يستند اليه عند خطبته عليه الصلاة والسلام أنّ عندما انتقل الى منبره، القطر والريح وحتى الملائكة تحولوا الى جنود في جيوش الجهاد، أما اليوم فقد تحولنا جميعاً الى ثيران ننبش الأرض ونحرث تمهيداً لبناء سور جديد وجدار أجد، هناك تحول الضب والحمار وجذع الشجرة الى كائنات نورانية، وهنا نتحول نحن البشر الى مجرد حيوانات يقودها جوعها وشبقها. قال مولانا: وفي موطن العمران - هنا - يظل الكلب كلباً (الرومي 185).
التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"