رحلة ميدانية في تاريخ خورفكان العتيق

نظمها معهد الشارقة للتراث لطلابه
02:35 صباحا
قراءة 5 دقائق
أمل سرور
«ترك لنا الأسلاف من أجدادنا الكثير من التراث الشعبي الذي يحق لنا أن نفخر به ونحافظ عليه، ونطوره ليبقى ذخراً لهذا الوطن وللأجيال القادمة».. وحدها الكلمات التي قالها المغفور له بإذن الله تعالى الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه، كانت رفيقتي في رحلتي التي صحبني إليها طلاب الدبلومات المهنية في معهد الشارقة للتراث إلى الابنة المدللة للطبيعة، التي يضوّع أريجها الساحل الشرقي للدولة لتلقي بعطرها علي خليج عمان. رحلة ميدانية تراثية من الطراز الأول إلى مدينة خورفكان التي تفوح منها رائحة الزمن القديم، والتي تكللت بزيارة خاصة لمتحف الباحثة الاجتماعية وخبيرة التراث الشعبي فاطمة المغني.. جولة ننقل تفاصيلها عبر السطور المقبلة.
ساعتان هما المدة الزمنية الفاصلة من إمارة الشارقة إلى خورفكان، 150 كيلومتراً قطعتها السيارة كانت كفيلة بأن تجعلني وما يقرب من 10 طلاب من معهد الشارقة للتراث نعيش بل ونغوص بين تلك الطبيعة الفريدة من نوعها والتي وهبها سبحانه وتعالى لتلك البقعة المميزة علي الأرض.
نشق الطريق عبر تلك الرمال الصفراء بحنينها وتوحشها وتمردها وجنونها وعطفها وكل تناقضاتها التي تأسر البشر أمامها، نعبر الدروب من الإمارة الباسمة فنتأمل تلك الصحراء الشامخة التي استطاع الإنسان أن يروضها بل ويحول من رمالها الملساء ذهباّ يلمع أمام الأعين.
إذاً هي خورفكان حيث يفوق جمالها أي وصف، هكذا جاء صوت نهاد حلمي إحدى الطالبات في دبلومات المعهد مدوياً في العربة، أنصت إليها عندما بدأت تتمتم قولة أحد الشعراء: «يا حادي الركب طول السير أضناني.. قف بي تمهل فهذي خورفكان، مدينة السحر قد طاف الجمال بها.. وماؤها العذب يروي كل ظمآن». ما إن تطأ قدماك أرض منزلها المنشود، وتدخل عبر بواباته البسيطة حتى ينتابك إحساس بأنك عدت إلى الوراء زمناً، ربما تكون طبيعة المكان الذي ارتسمت عليه ملامح الهدوء والقدم، يعلنها صراحة بأنك تقف أمام التاريخ وجهاً لوجه، رائحة القدم تغزو صدرك ورهبة ما تنتابك سرعان ما تتبدل إلى إحساس بالسكينة ما إن تستقبلك ابنة خورفكان في ردهة منزلها الذي خصصت منه مساحة لا بأس بها لتكون صومعتها التراثية الخاصة. ابتسامة وترحاب فاطمة المغني كانت كفيلة أن تشعر معها بأنك في قلب منزلك.
بعض من الخجل ارتسم على ملامح طلاب معهد الشارقة للتراث، وسرعان ما احتضنت المغني ارتباكهم لتحوله لحالة من المرح والمتعة والتجول بين أروقة متحفها الشخصي القديم الذي راحت أعيننا جميعاً تراقب عن قرب تلك المقتنيات القديمة التي تنوعت بين الحلي والبنادق والأزياء وأدوات الطهي. الجميل في الأمر أن الخبيرة التراثية فاطمة المغني تركتنا نستمتع بمشاهدة متحفها بلا مقاطعة لحالات التأمل التي انتابت الجميع.
المفاجأة التي أذهلت الجميع كانت تلك المجموعة من السيدات الحرفيات اللاتي جمعتهن ابنة خورفكان ليمارسن الأعمال اليدوية الحرفية الإماراتية القديمة، حيث استطعن أن يشرحن لنا تفاصيل التلي والسدو والخوص.
تحدثت السيدة الأولى من وراء البرقع الإماراتي، بينما يداها تلهوان بين أعواد الخوص بخفة ومهارة قائلة: «الخوص كان الأساس في حياتنا القديمة، منه نصنع الكثير من الأغراض ومنها مثلاً (الشلبدان)، الذي يستخدم لوضع المكحلة بداخله، ونصبغ الخوص بطريقة سهلة عندما نضع الصباغ في قدر من الماء، وتوضع فيه أوراق السعف، ونتركه في الماء نصف ساعة تقريباً، ثم نجففه بعد الصبغ مباشرة، ونلونه أحياناً بأكثر من لون، مثل الأحمر والأخضر والأزرق والأصفر، أما طريقة الحياكة فتكون بوضع كميات من السعف، وبالتالي تحاك كالضفائر، وتستخدم كميات كثيرة من السعف المقطع رفيعاً، وتتم إضافة الخيوط عندما تنتهي طولياً، وتستخدم عرضياً مع القطع المستديرة والكبيرة».
ومن الخوص إلى التلي تتحدث سيدة أخرى قائلة: «التَلي هو الأصل، وكانت تمارسه النساء في قديم الزمان، وتسمّى هذه الحرفة (تلّي بوادل) أو (تلّي بتول)، نسبة إلى كلمة التلّي وهو: شريط مزركش بخيوط ملونة أبيض وأحمر، وخيوط فضيّة متداخلة تستخدم (الكوجة) في عمل التلّي، والكوجة هي الأداة الرئيسة للتطريز وتتكون من قاعدة معدنية على شكل قمعين ملتصقين من الرأس، وبهما حلقتان على إحدى القواعد لتثبيت وسادة دائرية تلف عليها خيوط الذهب والفضة للقيام بالتطريز».
السيدة الثالثة جاء صوتها من خلف برقعها الإماراتي قائلاً: السدو هو الأصل في حرفنا القديمة، وهو أهم فن في تراثنا وأهم ما فيه هو الصبغ في الألوان وغالباً ما نستخدم نباتات طبيعية في الصباغة منها الحناء لتعطي اللونين الأسود والأحمر، والعصفر ويعطي اللون الأصفر المائل إلى الإحمرار والزعفران والكركم، أما «قرف» الرمان فيعطي لوناً مائلاً للخضرة، كما يتم استخدامه كذلك في تثبيت اللون، كما تستخدم «النيلة» وهي عبارة عن قطع من الحجر الطبيعي الجبلي لتعطي لوناً أزرق، أما العرجون فيعطي اللون البرتقالي.
سؤال الطالبتين نهاد حلمي وفاطمة العويس عن النقوش التي تزين السدو كان كفيلاً بأن يجعل من تلك السيدة الجالسة تعمل في انهماك تخرج عن صمتها، لتتحدث قائلة: «العلاقة بين السدو وألوان البادية العربية مستمدة من الصحراء والجبال، ومن أهم النقوش الضلعة والحبوب والعين وضروس الخيل والمذخر وهي على شكل معين والعويرجان وتأخذ على شكل خط متعرج، غير أن أصعب تلك النقوش هي (الشجرة) كونها تحتوي على أشكال بداخلها ولا تتقنها إلا الناسجة الماهرة، وتحتوي على مجموعة من النقوش المتشابكة من المثلثات والعين والحلق والمبخر، إضافة إلى أشكال الثعابين والجمال، وتكون الشجرة عبارة عن كتابة لعبارة معينة، وغالباً ما تكون باللونين الأبيض والأسود».
ساد الصمت لتتأمل أعين الطلاب أيادي الحرفيات وهن يعملن وفي فترة الاستراحة وقبل أن تبدأ خبيرة التراث فاطمة المغني تشرح رحلتها مع متحفها الشخصي لهم، تحدثت نهاد حلمي الطالبة في دبلوم معهد الشارقة للتراث قائلة: «تلك النوعية من الرحلات الميدانية مهمة ومفيدة لدراستنا، نحن نرى الأمور على حقيقتها، وفرصة لقاء فاطمة المغني وجهاً لوجه وزيارة متحفها الشخصي فرصة مميزة ولن تعوض فخبرتها ومعلوماتها بالتأكيد ستفيدنا، وأنوي الحديث معها عن مشروع تخرجي الذي يتناول عملية دمج التراث في المدارس خاصة بالنسبة لطلاب المرحلة الابتدائية، لأنه يجب أن يكون هناك محاكاة للطفل، ونقدم الألعاب الشعبية لهم، والحقيقة أن التراث الإماراتي غني بكل ما يستحق الدراسة والتأمل».
ولم يختلف حديث فاطمة العويس عن نهاد حين قالت: «أنا ربة منزل ولكنني مهتمة للغاية بالتراث، والتحقت على الفور بالدراسة في الدبلوم المهني لأنه يعلمنا ضرورة وكيفية الحفاظ على تراثنا القديم، الآباء والأجداد يمثلون لنا كنوزاً بشرية من المعلومات والقصص والحكايات والتفاصيل عن الماضي، وزيارتي لمتحف الخبيرة فاطمة المغني أفادني للغاية، والحقيقة أنها وحدها ترقى إلى أن تكون مدرسة تعليمية تراثية متكاملة».
التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"