الخط الحجازي محطة تضامن في الذاكرة العربية

جهود متواصلة لإعادة تسييره
12:52 مساء
قراءة 5 دقائق

في مركز العاصمة السورية دمشق، وتحديداً في منتصف الطريق الواصل بين التكية السليمانية وسوق الحميدية الشهير، لا يزال بناء محطة الحجاز قائماً حتى اليوم يلفت النظر لطرازه المعماري الذي بات مقصداً للسياح الوافدين إلى سوريا نظراً لما يختزنه هذا البناء من نقوش إسلامية وأشكال معمارية لا تزال تحكي قصة عشرة عقود من السفر إلى الأراضي المقدسة بدأت منذ بداية القرن المنصرم.

استكمل بناء محطة الحجاز في دمشق قبل مائة عام لينطلق منها قطار الخط الحديدي الحجازي الذي يربط دمشق بالمدينة المنورة مروراً بمدينة عمان الأردنية، ومنذ ذلك الوقت أصبح مبنى المحطة ذو الشكل المعماري الجميل معلماً مهماً من معالمِ دمشق. ويمكن مشاهدته من عدة شوارع رئيسية، فهو يتصدر نهاية الشارع المتجه من ساحة يوسف العظمة حيث يتواجد مبنى المحافظة كما يشاهد من سوق الحميدية الشهير مخترقاً شارع النصر، ويشاهد أيضاً من شارع الحلبوني للقادم من منطقة مباني جامعة دمشق كما يشاهد من شارع خالد بن الوليد، أما بهو المحطة الواسع فتحول إلى معرض دائم للكتاب يرتاده المثقفون من كل أصقاع الأرض.

ظهرت فكرة إنشاء الخط الحديدي الحجازي سنة 1864 أثناء العمل في قناة السويس التي ربطت بين البحرين الأبيض والأحمر، إذ تقدم الدكتور زامبل الأمريكي من أصل ألماني، باقتراح تمديد خط حديدي يربط بين دمشق وساحل البحر الأحمر. والاقتراح قوبل في البداية بالإهمال، لكنه سرعان ما عاد إلى الظهور في 1880 عندما قدم وزير الأشغال العامة في الأستانة (استانبول حاليا) مشروعاً أوسع من السابق يقضي بمد خط حديدي من دمشق إلى الأراضي المقدسة، غير أن المشروع لم ينفذ بسبب الصعوبات المالية وبقي بدوره حبراً على ورق.

وبعد سنوات أحيا السوري عزت باشا العابد الذي كان يشغل منصب الأمين الثاني للسلطان العثماني عبد الحميد، الفكرة عندما اقترح عام 1900 المشروع على السلطان الذي تحمس له فأقام دعاية واسعة له في العالم الإسلامي مركزا على مسألة سهولة نقل الحجاج إلى أرض الحجاز إذا ما تحقق المشروع. وبث المشروع الحماس في نفوس المسلمين في كل مكان وتابعوا مراحل إنشائه وتبرعوا له من أموالهم وغطت هذه التبرعات ثلث تكاليفه التي بلغت أكثر من ثلاثة ملايين ليرة عثمانية.

ويقول المهندس يونس الناصر مدير العلاقات الدولية في المؤسسة العامة للخط الحديدي الحجازي إن هذا الخط كان رابطاً حيوياً بين الدول التي يعبرها وحمل تأسيسه طابعاً روحياً، إذ كانت هذه الرحلات توفر العناء على الحجاج وتنطلق من دمشق إلى المدينة المنورة. وأوضح أن تكلفة إنشاء الخط قدرت آنذاك بنحو 3،5 مليون ليرة عثمانية، وأن الكثير من الدول الإسلامية شارك في إنشائه، إذ دفع شاه إيران 50 ألف ليرة ذهبية والسلطان عبد الحميد 320 ألف ليرة ذهبية، كما أن مصر تبرعت بمواد الإنشاء والبناء والأخشاب إضافة إلى تبرعات من جمعيات هندية وباكستانية، واكتمل المبلغ من بيع جلود الأضاحي والاقتطاع من رواتب العاملين.

ويشير الناصر إلى انه إلى جانب أن هذا الخط جزء من الذاكرة العربية ورابط حيوي بين الدول فهو معلم سياحي مهم ويقصده السياح من جميع دول العالم وتمتلك المؤسسة العديد من القاطرات البخارية التي لا تزال تعمل بجهود الفنيين لخدمة المجموعات السياحية.

الانطلاقة

بدأ العمل في الخط في سبتمبر/أيلول سنة ،1900 وحدد مهندس تركي يدعى مختار بك مسار الخط، ويقال إن المسار الذي اختاره هو نفسه الذي سلكته قوافل الحج والتجارة منذ القدم. وبعد ذلك بعام عين مهندس ألماني يدعى مايسنر للإشراف على تنفيذ المشروع بمساعدة حوالي 50 مهندساً من جنسيات مختلفة، وتقول المراجع إن العمل كان مرهقاً نتيجة الظروف الجوية القاسية، وندرة المياه، والوقود، وتراكم الرمال في المناطق الصحراوية، وقلة المواد الغذائية، وقلة الأيدي العاملة مما دفع السلطات العثمانية إلى الاستعانة بالجيش لتوفير اليد العاملة في تنفيذ المشروع الذي استمر العمل فيه حوالي ثماني سنوات. وبدأ الخط من دمشق مروراً بمدن درعا، فالزرقاء، فعمان، فالمدورة، فتبوك، فمدائن صالح لينتهي في المدينة المنورة، قاطعاً مسافة 1320 كيلومتراً، وكان من المقرر أن يصل إلى مكة المكرمة ومنها إلى عدن في اليمن غير أن ظروف السلطنة العثمانية حالت دون ذلك. ووصل أول قطار إلى المدينة المنورة قادماً من دمشق في الثاني والعشرين من شهر أغسطس/آب 1908 في رحلة استغرقت حوالي خمسة أيام ( بدل 40 يوماً) وجرى الافتتاح رسمياً بعد ذلك بأسبوع، أي في الأول من سبتمبر/أيلول الذي صادف ذكرى تنصيب السلطان عبد الحميد الثاني حاكما للسلطنة، وجرى الاحتفال بحضور ثلاثين ألف مدعو مع عدد من مراسلي الصحف لتغطية الحدث الكبير.

واستمرت سكة حديد الحجاز تعمل بين دمشق والمدينة المنورة ما يقرب من تسع سنوات نقلت خلالها التجار والحجاج، عبر تسيير ثلاث رحلات منتظمة من دمشق إلى المدينة المنورة أسبوعياً. وعندما نشبت الحرب العالمية الأولى ظهرت أهمية الخط وخطورته العسكرية على بريطانيا، فعندما تراجعت القوات العثمانية أمام الحملات البريطانية، كان الخط الحجازي عاملاً مهماً في ثبات العثمانيين في جنوبي فلسطين نحو عامين في وجه القوات البريطانية المتفوقة. وعندما نشبت الثورة العربية بقيادة الشريف حسين واستولت على معظم مدن الحجاز، لم تستطع هذه القوات الثائرة السيطرة على المدينة المنورة بسبب اتصالها بخط السكة الحديدية ووصول الإمدادات إليها واستطاعت حامية المدينة العثمانية أن تستمر في المقاومة بعد انتهاء الحرب العالمية بشهرين. لذلك لجأ الشريف حسين، تنفيذًا لمشورة ضابط الاستخبارات البريطاني لورانس - إلى تخريب الخط ونسف جسوره وانتزاع قضبانه في عدة أجزاء منه، ثم جاء الانتداب الفرنسي الذي أصلح الخط من جديد وتمكن من تسيير قطار من المدينة المنورة إلى دمشق، ووصل القطار أواخر عام 1919 حاملاً معه الأمير علي بن الحسين لزيارة أخيه الملك فيصل في دمشق.

محاولات إعادة تشغيل الخط، كما تشير المصادر تكررت، ففي عام 1924 م عقد مؤتمر في استانبول تقرر فيه تقسيم الخط بصورة نهائية واعتبار كل قسم ملكاً للمناطق التي يمر بها وأيدت عصبة الأمم ذلك التقسيم سنة 1925. كما عقد مؤتمر في الرياض سنة 1955 جمع سوريا والأردن والسعودية، ولم توضع قراراته لإعادة الخط موضع التنفيذ، ثم تشكلت لجان وعقدت اجتماعات وصدر قرار بتشكيل هيئة عليا للخط الحجازي من وزراء المواصلات في البلدان الثلاثة لكن لم تظهر أية بوادر فعلية على أرض الواقع. وفي عام 1978 اتفقت البلدان الثلاثة على إنشاء خط عريض جديد يربط بينها، وكانت نتيجة الدراسات إيجابية، فتوالت اجتماعات اللجان واعتمدت قرارات بأن تنفذ كل دولة على نفقتها الجزء الذي يمر في أراضيها، وشكلت في الآونة الأخيرة هيئة خاصة لهذا الغرض، تحت اسم (هيئة إعادة تسيير الخط الحديدي الحجازي)، تضم أعضاء من الدول الثلاث تعقد اجتماعات متتالية بغرض تسيير قطارات بين دمشق والمدينة المنورة مرورا بالأردن.

ويقول المهندس محمود سقباني، مدير عام المؤسسة العامة للخط الحديدي الحجازي إن العمل جار الآن على تطوير خط دمشق - درعا - الحدود الأردنية، مشيراً إلى الجهود التي تبذل لإعادة الألق لهذا الخط بالاتفاق مع الجهات الأخرى.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"