خريطة الإبداع لا تعترف إلا بالحزن

03:15 صباحا
قراءة 5 دقائق

استطلاع: نجاة الفارس

غياب نبرة الفرح والسعادة من وجدان الشاعر العربي ظاهرة ملموسة منذ العصر الجاهلي وحتى اليوم، ولعل ما كابدته الأمة من خيبات ونكسات يرسم خريطة شعرية تمتلئ بالأسى، حتى بات الشعر متنفساً لكل الآلام والأحزان، فالفرح لحظات تنتهي، كأنه نسمة تعبر على سطح الروح، أما الحزن فيترك ندبة لا يمكن أن تمحى.

إن غياب نبرة الفرح والسعادة في الشعر، مرده أن العرب كانوا يظنون أن الشعر لا يقوى ولا يتداول بين الناس إلا إذا عبر عن موضوعات الحزن والفخر والحرب والضرب والهجاء، علماً أن الشاعر الحقيقي الذي يحمل قلباً شاعرياً بوسعه أن ينظم الروائع في أي موضوع بعيداً عن التكلف غير المرغوب فيه.

«الخليج» ناقشت أسباب هذه الظاهرة مع عدد من الشعراء والنقاد.

قال الشاعر الدكتور طلال الجنيبي: الشجن دائماً يرتبط بالحزن في المخيلة الذهنية والعقل الباطن في سياق التراث العربي؛ حيث إن الإتيان بالشعر الذي من المفترض أن يروّح عن النفس يكون معالجة لحالة حزن أو أسى أو ظلال سلبية تعتري روح المبدع، ومن هنا أصبح ارتباط الشعر والإبداع الجمالي بالحالة الإبداعية مسألة ارتباط شرطي يحمل أبعاداً سيكولوجية وتفاصيل نفسية نتلمسها من خلال قراءة حالة الحزن التي تعتري إبداع أغلب الشعراء العرب، ولعل ما كابدته الأمة من خيبات ونكسات وغمامات داكنة ترسم خريطة طريق تؤكد اتجاه الحزن والأسى، ما لم يعمد المبدع إلى اختيار اتجاه آخر، ومن هنا نفهم سر هذه العلاقة ما بين حزن الشاعر وعطائه الإبداعي.

وأوضحت الشاعرة الدكتورة عائشة الشامسي، مدير وحدة التعلم التنموي في جامعة الإمارات، أن الشاعر العربي لا يسعى إلى تسجيل لحظات الفرح؛ لأنه يعيشها في لحظتها، ويتفاعل معها بكل جوارحه، ونحن كما أقول دائماً ( لا نكتب إلا إذا صُفعنا) نخلد الحزن ونتغنى به؛ لأننا نشعر بأن الشعر متنفس لكل الآلام والأحزان، فالشعراء يغلب عليهم البكاء بمعنى أنهم يكتبون بحزن وللحزن، ولكنهم لا يسعون إلى كتابة الفرح والسعادة؛ لإيمانهم العميق بأن الفرح يجب أن يعاش في لحظته، أما الحزن فهو يسكن الأعماق؛ لذلك يحتاج إلى أداة قوية لتخرجه من هذه الأعماق، والشعر هو هذه الأداة السحرية، ويبقى الشعر مغامرة لغوية جريئة بكل المقاييس، جريئة حتى على مشاعر الإنسان من سعادة وحزن.

الشاعرة نجاة الظاهري قالت: «لعلنا منذ قريب سمعنا وقرأنا قصيدة صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة، رئيس مجلس الوزراء، حاكم دبي، رعاه الله، في فرحه بأبنائه، أسعدهم الله، بعنوان «ليل الإمارات أفراح وألحان»، وهي دليل حديث على وجود الفرح لدى الشاعر العربي، كما أن شعر المناسبات فيه الكثير من هذه النماذج، وأنا متأكدة أن الشعراء في كل عصر عبّروا عن الفرح، ولكن كان أغلب نتاجهم الذي وصل إلى يومنا هذا مكتوباً في مواضيع بعيدة عن الفرح، كنت دائماً مؤمنة بعمق الحزن أكثر من الفرح، فالفرح لحظات تنتهي، كأنه نسمة تعبر على سطح الروح، أما الحزن فهو سكين، تدخل إلى أعماقها، وتترك ندبة بعد أن تخرج، لا يمكن أن تمحى، والزمن هو الحكم الذي تعتمل فيه القصيدة في ذهن وقلب الشاعر، وكلما كان زمن التجربة أطول، كان زمن القصيدة أطول، وبالتالي يكون نسجها محكماً أكثر، ومبدعاً أكثر، والحزن أنسب لهذه العملية، الحزن يرتبط مراتٍ بالحب لدينا، الحب الذي يثير الشوق، والشوق أقرب للحزن من الفرح، ويرتبط بالحرمان، والحرمان مخلوق حزين، ويرتبط بالفقد، ولا أكثر حزناً من الفقد، أشعر كأن قصائد الحزن التي كتبها الآخرون تخرج من أعمق نقطة في أرواحهم؛ لذلك تدخل في أعمق نقطة من أرواحنا، وننجذب إليها.

مسار تاريخي

الدكتور شعبان أحمد بدير من جامعة الإمارات العربية المتحدة قال: لم يغنِّ الشاعر العربي للفرح؛ لأنه مثّل على مر العصور واختلاف الأجيال منذ العصر الجاهلي وحتى العصر الحديث والمعاصر حالة خاصة من التعبير عن صراعات المجتمع وآلامه وسعيه الدؤوب من أجل التغلب على فقره وحاجته، فقد عاش في الجاهلية بين ويلات الحروب القبلية وما دار حولها من الفخر بالقبيلة والاعتزاز بها، بل إن الشاعر كان لسان القبيلة ووسيلة إعلامها والمتغني بأمجادها ومآثرها، لا يستريح برهة من الحروب إلا ويسعى باحثاً عن الكلأ والعشب والماء فحرم من الاستقرار، واكتنف حياته الترحال والتنقل، تحكمه طبيعة بنيوية وشكلية للقصيدة العربية التي بدأت بالوقوف على الأطلال ووصف الناقة والغزل والمدح، فكانت السعادة والفرح تمر في قصائده مر الكرام، وغلبت نبرة الحزن والبكاء على الأحبة الظاعنين.

فلما جاء الإسلام كان الشاعر لسان الدعوة، والمنافح عن عرينها، والمعبر عن قيمها وأخلاقها، والداعي إلى الجهاد، والمحمس للجيوش والجنود، ثم في العصر الأموي اكتنفته موضوعات الحب العذري والحرمان من المحبوبة، بحكم أعراف القبيلة والذي لا يعدم أن يأخذ في وجهه الآخر بعداً رمزياً عن التعبير عن الحرمان من الخلافة عند بعضهم، مع اشتعال جذوة النقائض الشعرية في هذا العصر بين كبار شعرائه كالفرزدق وجرير، فلما أطل العصر العباسي وجد الشاعر نفسه أمام الصراعات الطائفية والشعوبية والمدائح للخلفاء والولاة، آملاً في العطاء فتوارت ذاته في ذوات غيره، واغترب وجدانه في وجدان المجتمع، يبيع فيه الكثير منهم موهبتهم بمذلة الاستجداء، وبعضهم يعبر عن لوعة الاغتراب الذاتي والقيمي في المجتمع على شكل قصائد صوفية أو زهدية.

في العصر الحديث وقد سقطت المنطقة العربية في موجات متتالية من الاستعمار، انشغل بعض الشعراء العرب بالتعبير عن مشاعر الوطنية والحق العربي في الأرض والحياة، وانشغل البعض الآخر بمقاومة الانحدار الذي أصاب منظومة القيم في المجتمع، بسبب ما أصابه من فقر وزيف ومرض وتخلف، مما جعلهم يعيشون في أجواء حزينة وكئيبة، وهذا أدى إلى الاغتراب والاستلاب النفسي، وغابت نبرة الفرح والسعادة، وعلت نبرة الحزن التي تعد عند الكثير من الشعراء منهل الإبداع ومجمره.

وأوضح الدكتور بدير سبباً آخر من وجهة نظره أدى إلى غياب نبرة الفرح والسعادة في الشعر، وهو أن العرب كانوا يظنون أن الشعر لا يقوى ولا يتداول بين الناس إلا إذا عبّر عن موضوعات الحزن والفخر والحرب والضرب والهجاء الذي ينتشر بين القبائل انتشار النار في الهشيم، وأما إذا عالج موضوعات الخير والفرح لان وضعف، ومن ثم ورد عنهم هذه العبارة المتداولة التي سارت مسرى المثل ما رواه ابن قتيبة عن الأصمعي: «الشعر نكد بابه الشر، فإذا دخل في باب الخير ضعف».

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"