أمريكا تمنع تطبيع العلاقات الأوروبية - الروسية

04:47 صباحا
قراءة 5 دقائق
د. نورهان الشيخ

تشهد العلاقات الروسية الأوروبية تأرجحاً واضحاً، في ضوء التوجهات والضغوط الداخلية والدولية التي تتجاذب الاتحاد الأوروبي في علاقته بموسكو. وعقب عام عاصف بين الطرفين على خلفية الأزمة الأوكرانية، بدأ عام 2015 بتفاهمات روسية أوروبية انعكست في التوصل إلى اتفاق «مينسك- 2» الذي مثل خطة لإحلال السلام في أوكرانيا، وذلك عقب مفاوضات صعبة بين ما يطلق عليه «رباعية النورماندي» التي تضم رؤساء روسيا وفرنسا وأوكرانيا والمستشارة الألمانية يوم 12 فبراير.

أدت الأحداث الإرهابية الأخيرة في العمق الأوروبي إلى التفاؤل بشأن المسار المستقبلي للعلاقات الروسية الأوروبية، حيث دفعت التطورات التي تلت التدخل الروسي في سوريا إلى التقارب بين موسكو وأوروبا عامة وفرنسا خاصة، وتعميق التفاهمات والتنسيق المشترك بين الجانبين بهدف القضاء على الإرهاب واستعادة الاستقرار في سوريا من أجل بتر أذرع الإرهاب التي تهدد فرنسا وأوروبا، وإيجاد مخرج لقضية اللاجئين التي أصبحت كابوساً يهدد الوحدة الأوروبية ذاتها. وكانت زيارة الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند لموسكو أواخر نوفمبر، ثم زيارة وزير الدفاع الفرنسي جان إيف لودريان التي أعقبتها لروسيا، واتفاق البلدين على تبادل المعلومات الاستخباراتية بشأن «داعش» وتنسيق العمليات في سوريا مؤشراً قوياً على تقاطع الأهداف والمصالح بين الجانبين. وإنه يمكن استعادة الدفء في العلاقات الروسية الأوروبية في ضوء الروابط العضوية بين روسيا وأوروبا بالنظر لكون روسيا دولة أوروبية وتمثل الأراضي الروسية 40% من مساحة القارة الأوروبية، ويرتبط أمن واستقرار أوروبا بالسياسات الروسية، داخل أوروبا وخارجها في سوريا.

وأكد وزير الدولة بوزارة الخارجية الألمانية، ماركوس إديرير، أن «منظومتي الأمن لروسيا ولأوروبا لا يمكن إقامتهما منفصلتين عن بعضهما، مشدداً على حاجة الجانبين لحوار يؤدي إلى مستقبل واعد»، جاء ذلك خلال مشاركته في مؤتمر: العلاقات الألمانية الروسية بعد 25 عاماً من توقيع اتفاقية «4 + 2» الخاصة بتوحيد الألمانيتين في 25 سبتمبر.
وأشارت وزيرة الدفاع الإيطالية، روبرتا بينوتي، إلى أن عدم وجود حوار مع روسيا مشكلة في حد ذاته، مضيفة أن غياب الحوار مع موسكو بشأن سوريا وملفات أخرى، مصدر قلق للدول الأوروبية الأعضاء بحلف شمال الأطلسي (الناتو).

كما أكد مارجاريتيس سكيناس، المتحدث باسم المفوضية الأوروبية، حاجة الاتحاد الأوروبي إلى علاقات شراكة استراتيجية مع روسيا. «وأن للولايات المتحدة مصلحة خاصة بها، أما الاتحاد الأوروبي فيجب أن يكون له مصلحة استراتيجية خاصة به فيما يخص العلاقات مع روسيا، وأكد أن أوروبا بحاجة إلى روسيا كشريك»، وأكد رئيس المفوضية الأوروبية، جان كلود يونكر، في 8 أكتوبر أهمية العمل من أجل «علاقات عملية مع روسيا».

عزز من هذا التوجه تعالي الأصوات الأوروبية المطالبة بضرورة تحسين العلاقات مع روسيا، نتيجة الأضرار التي لحقت باقتصادات عدد من الدول الأوروبية بسبب العقوبات الجوابية التي فرضتها موسكو على أوروبا والتي تضمنت حظر استيراد المواد الغذائية والمنتجات الزراعية من الدول التي انخرطت في العقوبات ضدها، وقدرتها وزارة التنمية الاقتصادية الروسية بنحو 100 مليار دولار خسائر للاتحاد الأوروبي مقابل ما بين 20 و25 مليار دولار خسائر لروسيا. ويعد القطاع الزراعي اليوناني الأكثر تضرر نظراً لأن المنتجات الزراعية اليونانية تشكل أكثر من 40% من صادرات اليونان إلى روسيا، ويستأثر السمك اليوناني بنحو 35% من السوق الروسية، وتعتبر الأخيرة من أهم أسواق تصريف الفواكه المعلبة في اليونان كالخوخ والدراق، وتستوعب نحو 60% من إنتاج الخوخ اليوناني ونصف إنتاج الخوخ والكيوي و90% من إنتاج الفراولة في اليونان وكلها محاصيل قصيرة العمر لا يمكن تخزينها لفترات طويلة، ما دفع رئيس الوزراء اليوناني إلى زيارة موسكو والبحث عن مخرج لاستئناف العلاقات التجارية مع موسكو وتأكيد عدم ارتياحه لموقف الاتحاد الأوروبي من العقوبات ضد روسيا.

كما تقدم وزير النقل الفرنسي السابق والعضو الحالي في البرلمان، تييري مارياني، بمشروع قرار إلى البرلمان لإلغاء العقوبات المفروضة ضد روسيا على خلفية الأزمة الأوكرانية، وأكد مشروع القرار أن القيود المفروضة ضد روسيا تتناقض مع «ثوابت العلاقات الفرنسية الروسية»، وأن العقوبات غير فعالة وغير مشروعة وتتعارض مع القانون الدولي وتضر بمصالح فرنسا.

كما عارضت إيطاليا تمديد العقوبات على روسيا لستة أشهر بصورة تلقائية ودون نقاش أو بحث، وطلبت في 9 ديسمبر تأجيل اتخاذ قرار الاتحاد الأوروبي بهذا الخصوص، وألحت على مناقشة هذا الموضوع بالتفصيل في وقت لاحق. ورغم مناقشة الموضوع، فقد اتخذ الاتحاد الأوروبي قراره بتمديد عقوباته الاقتصادية المفروضة ضد روسيا على خلفية الأزمة الأوكرانية لمدة ستة أشهر أخرى حتى نهاية شهر يوليو 2016. وذلك رغم الاعتبارات الأمنية والمصالح الاقتصادية التي تدفع بقوة في اتجاه تحسين العلاقات الروسية الأوروبية.
وفي الوقت الذي التقى فيه أوباما وبوتين، أثارت واشنطن مع شركائها الأوروبيين على هامش قمة مجموعة العشرين أيضاً، مسألة ضرورة تمديد العقوبات المفروضة على روسيا. وفي 10 ديسمبر عادت وزارة المالية الأمريكية ودعت الاتحاد الأوروبي إلى تمديد العقوبات على روسيا. وفي 22 ديسمبر قامت الولايات المتحدة ليس فقط بتمديد العقوبات المفروضة على روسيا، وإنما التوسع فيها لتشمل عدداً من الشركات المتخصصة في مجال الدفاع، بما فيها «روسوبورون أكبسورت»، وشركة «روستيخ» الحكومية الخاصة بصنع التكنولوجيا إضافة إلى عدة بنوك.
وتعد واشنطن المحرك الأساسي لفرض عقوبات على روسيا، وكانت هي صاحبة الاقتراح والمبادرة بضرورة فرض العقوبات على موسكو اعتباراً من مارس 2014، في أعقاب ضم الأخيرة لشبه جزيرة القرم، واقتصرت العقوبات في البداية على شخصيات رسمية وعامة روسية واتسعت في وقت لاحق لتطال ثلاثة قطاعات حيوية في روسيا هي الطاقة، والصناعات العسكرية، والبنوك.

وهناك ضغوط أمريكية حقيقية على أوروبا لاستمرار العقوبات ضد روسيا، ولا يتعلق الأمر بالقرم أو أوكرانيا فحسب، ولكنها سياسة أمريكية أعمق وأوسع نطاقاً تهدف إلى تقويض القدرات الروسية وإحكام الخناق على موسكو التي أصبحت «مزعجة» ومعرقلة للسياسات الأمريكية في مواضع وأزمات عدة، وانتزعت منها زمام المبادرة في الشرق الأوسط وغيره بهدف إعادة ترتيب الأوضاع، وكبح جماح الفوضى التي ساهمت في استشراء التطرف واستقوائه على النحو الذي يهدد الأمن والاستقرار الدولي. وقد عكست الاستراتيجية القومية الأمريكية لعام 2015، التي أعلنها أوباما ذلك بوضوح، ووفقاً لها مازالت واشنطن تصر على فكرة الزعامة الأمريكية للعالم، وما وصفته بحق واشنطن في تحديد الأجندة الدولية، ووضعت روسيا وتنظيم «داعش» الإرهابي وحمى إيبولا كأبرز تهديدات أمنها القومي.

تزامن ذلك مع إصرار حلف شمال الأطلسي على التمدد حتى الحدود الروسية وضم أعضاء جدد من الفضاء السوفييتي السابق، حيث أكد الأمين العام للحلف أن سياسة «الباب المفتوح» للحلف مازالت قائمة، وأن ضم جورجيا وأوكرانيا مازال على أجندة الحلف. كما قام الناتو بدعوة الجبل الأسود لعضويته، في حين أشارت وزارة الخارجية الروسية إلى «التداعيات السلبية» لذلك على علاقة الجبل الأسود بموسكو. وكانت الجبل الأسود قد دعمت العقوبات التي فرضها الاتحاد الأوروبي ضد روسيا منذ عام 2014، رغم أنها ليست عضواً في الاتحاد الأوروبي.

إن المواجهة الروسية الأمريكية مازالت قائمة وممتدة، وستظل أوروبا حائرة بين إرضاء واشنطن، حليفها الاستراتيجي، وعدم إغضاب موسكو والإضرار بمصالحها الواسعة معها.

ويظل السؤال حول أيهما أقوى تأثيراً في صانعي القرار الأوروبيين، لغة المصالح وصوت العقل مع موسكو أم التحالف مع واشنطن؟ وتحدد الإجابة عن هذا التساؤل مستقبل العلاقات الروسية الأوروبية، والتي يبدو أنها ستستمر لصالح التحالف مع واشنطن في المستقبل المنظور، الأمر الذي يجعل التحسن في العلاقات الأوروبية الروسية يمر عبر البوابة الأمريكية.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"