جوهر الإنسان

03:17 صباحا
قراءة 3 دقائق

علاء الدين محمود


الحزن رفيق الصوفي يعبر عنه شعراً ومناجاة رقيقة، يشكو فيها الحال بلغة لا تكون مفهومة للعوام في بعض الأحيان، وذلك ليس من باب الاستغراق في الغموض؛ بل لأن التعبير العادي لا يُدرك التجربة التي يعيشها الصوفي فتضيق العبارة، لذلك لجأ المتصوفة إلى توليف ألفاظ ومصطلحات ورموز وتعبيرات هي في الغالب مجازية، لا يُدرك كنهها إلا أصحاب الأحوال ممن عرفوا المقام، فالألفاظ تصبح دلالات غير تلك المألوفة، وذلك من أجل أن تتسع اللغة، والصوفي حزين في تعبيراته ومناجاته لأن التصوف في أصله حالة وجدانية ووجودية ذات أبعاد دينية داخل تجربة الاغتراب، الذي يعني عند المتصوفة الابتعاد عن الله عز وجل، وهذا الحزن الذي نجده في معظم كلمات أقطاب الصوفية من شعراء وخطباء وأصحاب مناجاة، هو كما يرى الدكتور حسن الشرقاوي من أوصافهم في سلوكهم وحياتهم، فالمريد الحزين يصبح انتقاله من مقام إلى آخر يسيراً أثناء رحلة مجاهدات الصوفي في طريق السالكين.

لذلك يحرص الصوفي ويا للعجب! على ألا يفقد حزنه أبداً، فهم يقولون: «إن ما يقطعه الحزين في شهر، يقطعه غير الحزين في سنة»، حيث إن الحزن سبب للترقي، ولكنه ليس حزناً على الدنيا ومتعتها؛ بل من أجل لقاء الله تعالى، فالصوفي الحزين هو العارف العالم والخبير بحال الدنيا، حيث إنها لهو وعبث، ومجال اختبارات وامتحانات تعترض رحلته القاصدة إلى ربه، فهو لا يطمئن إلى الدنيا ولا يفرح بما فيها؛ لأنه يرجو ما عند الله سبحانه وتعالى، ولذلك يظل يكابد الشوق والحنين في حزن مستمر، ويقول الشاعر الصوفي عبد الغفار الأقصري:

فؤاد لا يقر له قرار/ وأجفان مدامعها غزار/ وليل طال بالإنكار حتى/ ظننت الليل ليس له نهار.

ويقول أحد أكبر أقطاب الصوفية، هو جلال الدين الرومي مفسراً حالة الحزن تلك: «إنني أعشق الحزن والألم كي أسعد، والدموع التي تنهمر من عيني لأجل الله تعالى هي لآلئ على الرغم من أن الناس يرونها دموعاً»، فحزن الصوفي هو أنين القلب المشغول بطلب الله تعالى، فلا يتسرب إليه السرور؛ إذ إنه في تفكير دائم في حاله التي لا يرضى عنها، وبالتالي فإن الحزن هو من أنواع ترويض الذات وسبب للقرب من المحبوب، ويكون الحزن الأكبر للسالك عندما يغفل لحظة عن ذكر محبوبه، وفي ذلك يقول واحد من أبرز شعراء الصوفية:

إذ ذكرتك كاد الشوق يقتلني/ وغفلتي عنك أحزان وأوجاع.

فالصوفية ينظرون إلى الحزن كحالة من حسن التأدب في الحياة الدنيا، فهو أعلى مراحل الزهد، ويقول العلامة الأكبر الشيخ القطب ابن عربي:

حزن الفؤاد أدبه/ ودينه ومذهبه/ إن جئته وجدته/ أمراً عسيراً مركبه/ وكل من يشغله/ مقامه لا يطلبه.

غير أن هذا الحزن ليس حالة يعذب بها الصوفي نفسه، لكنه ظاهرة تأتي مما يكتشفه الصوفي في طريق الحقيقية، فكل هذه المتع ليست خالدة، فالموت هو نهاية كل كائن حي، وتلك هي الحقيقة التي يأبى أن يهتم بها معظم البشر، وبالتالي فإن الحزن يعبر عن تجربة عميقة وعن حالة كشف يرى فيها الصوفي ما لا يراه غيره من خلال التأمل الفلسفي في الكون والوجود، فهو بالتالي يرجو سعادة حقيقية وعالم خلد، وذلك يكون في الآخرة حيث وعد الله تعالى للمؤمنين بالخلود والفرح العظيم، ولذلك فإن الحزن هو حالة مستمرة لا تنقطع عند الصوفي الحق لأنه يعبر عن مقام الصدق لدى المؤمن الحق، وفي ذلك يقول القطب الكبير عبد الجبار النفري: «القلب يتغير وقلب القلب لا يتغير والحزن قلب القلب».

ويقول ابن عربي: «الحزن إذا لم يصحب الإنسان دائماً لا يُعوّل عليه»، وابن عربي يجمع بفرادة وعمق بين الحيرة والحزن فيقول: «الحيرة الحزينة جوهر الإنسان»

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"