انزياحات

رؤية
14:49 مساء
قراءة دقيقتين

إبداعياً ليس للزمان وقت معلوم، وليس المكان رسماً نتغنى به. قال أبو نواس ساخرا من شعراء الطلول :

قل لمن يبكي على رسم درس واقفاً ما ضر لو كان جلس

وفي هذا القول يحاول أبو نواس إظهار مكان الإبداع بوصفه متجاوزاً للمكان المحكوم بنوستالجيا الحنين، الأنا الناظرة لما تعوّدت عليه وألفته، فالشاعر الذي يقف عند تخوم الرسوم والأطلال لا يقدم جديداً، بل يُعيد إحياء ما كان، وبالتالي فإن المكان لديه يتحول إلى رسم ثابت يتواتر جيلاً بعد جيل، مما يتعارض مع ماهية المكان الحقيقية .

المكان بالمعنى الإبداعي ليس حيزاً يتم تعميره بالمحاصرة الإدراكية والبصرية المباشرة، بل إنه لا مكان أيضا!!.. إنه توق وحلم واستسبار لما سيأتي من جديد غير مرئي، إنها مُناجزة إبداعية للمجهول الغائب مكانياً، فهو طوبى وجزيرة أحلام .

ذات الأمر ينطبق على الزمان، فالإبداع لا يرتهن للزمن الفيزيائي المألوف، بل يخترقه إلى المدى المفتوح حتى انه يتجاوز نواميس الزمن المعروف والمألوف، فلك أن تستمتع بالذي كان بعد كل القرون السالفة، ولك أن ترى في شاعر معاصر صورة نمطية لآخر عاش قبل مئات السنين .

زمن الإبداع يتجاوز أزمنة الأيام فارداً مكانه الخاص في أعالي اللازمان.

ذات الحال ينطبق على المرئي واللامرئي، فالحامل الأكبر للإبداع ينغرس في أساس وتضاعيف اللامرئي، ويكتسي الكلام الإبداعي قوة دفعه التاريخية الخارقة للزمان من خلال الاتصال الإشاري أو الاتصال غير اللفظي، حتى انه يمكن القول إن كل مكتوب ينطوي على صورة وموسيقا.. ينطوي على المعلوم والمجهول .. بل على المعقول واللامعقول .

زمن الإبداع انزياحات متتالية في أقاليم متعددة وسابحة في فضاء المعاني الشفيفة الصادرة من حالة التماس الكُلّي مع الغيب.

[email protected]
التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"