نحو إحياء فنّ الخطابة

00:08 صباحا
قراءة دقيقتين

ما رأيك في استعادة شريط جميل؟ ليس ذكريات عبرت أفق خيالي، فإذاعة «فرنسا الثقافية» هي التي هيّجت الأشجان، أثارت موضوع فنّ الخطابة، وهي منظومة فصاحة وبلاغة وجمال إلقاء مع مؤثرات تعبيرية مسرحية.

امتطينا آلة الزمن، فالتقينا قس بن ساعدة. قيل إنه مؤسس الخطابة، وهو أوّل من قال أمّا بعد، وكذا وكذا. الإشكاليات نفسها نواجهها عند فحص الشعر الجاهلي. هل يمكن تصوّر أن القصائد الجاهلية فُطر بلا جذور؟ هل يعقل أن تكون ملحمة جلجامش أو إلياذة هوميروس لا سوابق تمهيدية نشوئية ارتقائية لهما؟ تخيّل أن تنبت السيمفونية التاسعة لبيتهوفن بلا عروق ولا تربة.

حتى لا نتجنّى على التاريخ، القرون التالية ليست أيسر نقداً. خطبة طارق بن زياد مثلاً، طرفة أدبية. تحفة إعجازية أن يبدع قائد عسكري أمازيغي، حديث العهد بالعربية والإسلام، خطبة مرتجلة تجعل قس الإيادي مجرّد تلميذ. بورك لنا في المناهج العربية، التي تحشر النصوص على طريقة حاطب ليل. لكن النقاد العرب لم يتركوا الأمور سبهللاً، فحتى خطب «نهج البلاغة» لم يُلقوا فيها الحبل على الغارب، وأبلوا البلاء الحسن في فحص عيّناتها الأسلوبية تحت مجهر الاختبار والتحليل، وقد ذهب الكثير من الآراء إلى أن الشريف الرضي هو الذي دبّج سطورها، وأبدع تحريرها. الغريب أن ابن أبي الحديد اكتفى بشرحها وتحاشى تشريحها.

ما الذي حملنا إلى تلك المضارب؟ كان المرام استعادة فن جميل، لا الخوض في متاهات تاريخ الأدب العربي. على المناهج أن تدرك أن الخطابة فن، والفن لا يسقط بالتقادم. يجب التفكير في كل الطرائق الممكنة للحفاظ على هذا الإبداع الكلامي البديع. فيه حسن الإلقاء بعد حسن الانتقاء. فيه تدريب الذهن على جعل الكلام المرتجل فنّاً كما يكون ارتجال الموسيقى في التقاسيم، في الجمع بين سلامة التركيب من حيث القواعد والأداء، وبين الجمال والجاذبية وحسن الوقع والتأثير. التجارب لا حدود لها، وليس فيها تكلّف أو تصنّع، إذا ما روعيت فيها جماليات الفنون المسرحية. في اليونان القديمة، كان الراغب في أن يكون خطيباً، يذهب إلى شاطئ البحر في يوم عاصف، ويتخيل الأمواج المتلاطمة جمهوراً صاخباً، وينطلق صادحاً. الإنجليزي يجلس في غرفة وحيداً، أمام المرآة، ويختار موضوعاً لخطبته، فإذا أخطأ ارتبك، وأصلح أمره.

لزوم ما يلزم: النتيجة التربوية: يقول الفرنسيون عن الشخص الفصيح البليغ: إنه يتكلّم مثل الكتاب.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/p8sr8a42

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"