احتجاجات عمال مصر ودلالاتها

03:24 صباحا
قراءة 4 دقائق
صدر تقريران في غاية الأهمية يتحدثان عن الأوضاع الجديدة للعمال في مصر وتحليل الأحداث المرتبطة بهم في الفترة السابقة عن مركز الأرض لحقوق الإنسان ومنظمة ميريب للأبحاث والمعلومات في الشرق الأوسط وهما من دون شك جهات لها قيمتها ووزنها .بعد تكرار الاحتجاجات العمالية وتصاعد وتيرة إضرابات عمال شركة غزل المحلة وموظفي هيئة الضرائب العقارية، فنحن من دون شك أمام ظاهرة جديدة على الشارع العربي بدأت ملامحها تتضح وتتشكل، وهي ليست من صنع أهل السياسة، فتحركات أهل السياسة لها حساباتها الكثيرة المعقدة، أما عامة الجماهير ولا سيما العمال فالوضع يختلف، فهم وإن كانوا استفادوا من اختراقات الخطوط الحمراء خلال سنوات الحراك السياسي الأخيرة التي أفسحت المجال للمزيد من التظاهر والاحتجاج إلا أن العمال قد فاقوا كل التوقعات وأثبتوا أنهم قوة حقيقية قادرة على ملء الشارع ودفع السلطة للاستجابة لمطالبهم .إذا كان التاريخ يشهد أن أول إضراب للعمال في مصر كان العام 1882 ونظمه عمال الشحن والتفريغ في ميناء بورسعيد للمطالبة بزيادة الأجور، فإنه أيضا يشهد أن مصر لم تمر في تاريخها بكمية اعتصامات واحتجاجات عمالية قدر ما شهدته في العامين الماضيين والعام الجاري . فقد زادت الاحتجاجات العمالية من 202 احتجاج في العام 2005 إلى 222 في العام 2006 وتضاعفت بشكل ملفت خلال العام 2007 فوصلت إلى 614 احتجاجاً ولم يعد يمر يوم من دون اعتصامات أو اضرابات عمالية في كافة القطاعات، واللافت للانتباه أن الاحتجاجات لم تعد قاصرة على هيئات بعينها وإنما طالت جميع المؤسسات الحكومية وقطاع الأعمال وحتى القطاع الخاص بل ووصلت إلى بعض الأماكن ذات الوضع الحساس مثل هيئة الطاقة الذرية وقطاع النقل بل ووصلت للبنوك الحكومية مثل بنك التنمية الصناعية .كما يلاحظ أن النسبة العظمى من الاحتجاجات تقع في قطاع الغزل والنسيج وهو الذي شهد إبرام اتفاقية الكويز مع أمريكا لمصلحة "إسرائيل" فباتت المصانع التي تعمل بعيدا عن الكويز في مهب الريح . وأصبح العمال يعانون كثيرا لدرجة أن الوزيرة عائشة عبد الهادي اعترفت بأن أكثر من 100 ألف عامل نسيج لم يحصلوا على علاوات أجور منذ العام 1995 .ولكن وبمنتهى الغرابة أيضا نفت أن تكون الاحتجاجات العمالية تمثل ظاهرة، وأن صبر الحكومة نفد مع هذه القلة من العمال لأن ذلك يضر بالاستثمار وأصحاب العمل .كان من الطبيعي أن يشكل الخبز محور الاهتمام الجوهري لدى العمال باعتبارهم الفئة الأولى المطحونة من الشعب من دون منازع . وهنا أجد نفسي مضطرا لأن أصدم القارئ ليعرف أن غالبية العمال تتقاضى متوسط أجور يبلغ 8 جنيهات يوميا في مقابل 12 ساعة عمل، بل إن هناك فئة تقدر ب 6% تحصل على 56 جنيهاً شهرياً . إلا أن الواقع يؤكد تطور مطالب العمال فأصبحت الحرية والكرامة الإنسانية أيضا لها أهميتها وظهرت الكثير من الاحتجاجات بسبب سوء معاملة الإدارة للعمال وتزوير الانتخابات العمالية وبسبب فساد الإدارة، ولنا في تجربة مصنع المصابيح الكهربائية بالعاشر من رمضان نموذج لما يمكن أن تصل إليه مطالب العمال والذين استطاعوا تغيير إدارة المصنع وإدارته ذاتيا وبشكل جماعي وتسويق منتجاته بعد توقفه عن العمل .والمثير في تجربة العمال هو أنها كسرت حاجز الخوف وانهيار أسطورة "المشي بجانب الحائط" فعلى الرغم من أنه ينتج عن الاحتجاجات فصل قرابة 11 ألف عامل من وظائفهم، وتشريد 53 ألفاً شهريا، لكن ذلك لم يمنع عدوى الاضرابات والاعتصامات من الانتشار .كما أن التجربة أثبتت كفاءة "الدور العمالي النسائي"، الذي كان له تأثير قوي في حالة عمال النسيج والمطاحن، وكدن يفتكن بمسؤولي مجالس الإدارة الذين دعوهن للانصراف بوعود وهمية، كما أنهن أكثر شراسة في المطالبة بحقوق العمال، لكون غالبيتهن ربات أسر أو معيلات لأسر أو يشاركن برواتبهن في الإنفاق على أسرهن .وكشفت الاضرابات أيضا عن وحدة النسيج المصري في مواجهة الفقر والتعدي على مصالحهم وحقوقهم فلم نشاهد احتجاجات عمالية ظهرت فيها دعاوى خاصة بالمسيحيين أو العمال المسلمين، وبالتالي كشفت الاحتجاجات عن زيف الدعاوى القائلة بأن وراء الاحتجاجات قوى الإخوان المسلمين أو اليسار في محاولة لإضفاء طابع ديني أو سياسي على مطالبهم .ومن جهة أخرى أظهرت الاحتجاجات مدى ضعف التنظيم النقابي وتبعيته للحكومة، وهي التي سيطرت كالعادة على اتحاد عمال مصر، وحرصت على منع المعارضين - خصوصاً الإخوان واليساريين- من الفوز في انتخابات العمال الأخيرة . كما سعت لإجهاض أي محاولات لإنشاء اتحادات عمالية بديلة، مثل "اتحاد عمال مصر الحر" كتنظيم نقابي مواز للاتحاد الرسمي للعمال، وإغلاق "دار الخدمات النقابية والعمالية" وهي دار مستقلة من هيئات المجتمع المدني تتولى الدفاع عن حقوق العمال وتقديم المشورة لهم بشأن حقوقهم .وأخيرا فيجب على الحكومة المصرية أن تستوعب الرسالة وتبدأ في مراجعة أسلوب تعاملها مع العمال، وتحديد الأسباب التي أدت بهم إلى هذه التصرفات والعمل على مداواة الجراح الحقيقية للشعب . وإذا كانت الحكومة قد استطاعت لسنوات تقليص دور العمال وتهميش دور النقابات العمالية . فإن احتجاجات العمال تمثل خروجاً عن المألوف وتشكيل قوة فاعلة جديدة بالتأكيد ستؤدي لتغيير جذري في السنوات المقبلة .* كاتب اقتصادي مصري
التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"