التنظيم المدني ووسائل النقل

تعد السوق العقارية في أدواتها من ركائز الاقتصاد الحديث، ولها أدوار اجتماعية واقتصادية . أهم مزاياها أنها تسهل اقتناء المنزل أو قطعة الأرض أو وحدة الأعمال . يكمن دورها الاقتصادي في توسيع الأسواق المالية بحيث تتعمق الشفافية كما الفعالية والسيولة . وعلى المستوى الاقتصادي العام، تعد السوق العقارية مؤشراً مهماً للتطور والغنى . فمؤشر أسعار العقارات هو من أبرز الدلائل على جاذبية الاقتصاد للاستثمارات . لبنان كما دول مجلس التعاون الخليجي عرفت جميعها طلباً كبيراً على عقاراتها، فارتفعت الأسعار إلى ما يفوق قدرة المواطن العادي على التملك وحتى الاستئجار . تكمن خطورة أسعار العقارات ليس في ارتفاعها السريع فقط، وانما في هبوطها أيضاً بحيث تحدث خسارات كبرى في الاقتصاد العام كما في ثروات الأفراد والمجموعات . العقار هو من الأصول المهمة التي على أساسها يقترض المواطن ويستثمر، كما يشعر عبرها بالاطمئنان والارتباط أكثر بالأرض .

لا يمكن تطوير الأسواق العقارية من دون المدن والاهتمام بتنظيمها لمصلحة الاقتصاد كما لتعزيز الرفاهية العامة . التنظيم المدني مهمل عموما في الدول النامية والناشئة، ومن بينها لبنان . ما هي خصائص ومزايا التطوير المدني الحديث وبالتالي انعكاسه على الأسعار؟

أولا: في الأسعار، ونأخذ فرنسا كمثل، حيث تضاعفت أسعار الشقق القديمة مرتين منذ سنة 2000 بينما لم ترتفع قيمة الايجارات الا بنسبة 29% أي تقريبا بنسبة ارتفاع الدخل المتوسط للأسر . في العموم ترتفع أسعار البيع كما الايجارات بنفس النسبة، وهنالك مؤشر عام يدل على أن الإيجار يجب ألا يتعدى 10% من سعر الشقة . تختلف هذه النسبة بين اقتصاد وآخر كما من فترة إلى أخرى . فاذا كان مستوى الدخل في الخليج يتناسب أكثر مع أسعار العقارات مقارنة بلبنان، تبقى المشكلة موجودة وهي عدم قدرة المواطن ذي الدخل المتوسط على اقتناء مسكن مناسب له ولعائلته . ما يميز الدول الغربية عن الدول النامية والناشئة هو التناسب بين زيادات الأجور وارتفاع قيمة الايجار، وهذا مفقود في دولنا حيث تبقى أسعار العقارات فوق القدرة الشرائية للمواطن . وما يميز الدول الصناعية عن دولنا أيضاً هو أن قيمة الايجار لا يمكن أن تتعدى نسبة ال 40% من الدخل وهذا منطقي . في الدول النامية والناشئة، هذا التناسب مفقود . في لبنان مثلاً، يتعدى الايجار المتوسط الدخل الفردي الوسطي في المدن حكماً، كما في بعض المناطق الريفية . هنالك خلل كبير في الهيكلية المعيشية في لبنان تطال حق السكن .

ثانياً: أوضاع المدن في تنظيمها ونوعية الحياة داخلها . في كل الدول تتركز النشاطات الاقتصادية في المدن وهذا هو حالنا في لبنان ودول مجلس التعاون الخليجي .

ثالثاً: هنالك منافسة كبيرة بين المدن العالمية حيث تتصارع لجذب الاستثمارات كما السواح .

رابعاً: لا يمكن تحقيق سوق اقتصادية ناشطة من دون شبكات نقل ليس فقط بين المدن وانما داخلها أيضاً . في لبنان مثلاً، لا يمكن حل مشكلة السكن الا عبر توجه الطلب إلى خارج المدن وخاصة إلى خارج بيروت . كي تتحقق هذه الأمنية ذات الأبعاد الانمائية والاقتصادية والتنظيمية، لا بد من انشاء شبكة نقل تسمح للمواطن باستعمالها كل يوم للذهاب إلى مركز العمل والعودة منه . شبكات النقل العام المتطورة غير متوافرة في لبنان حتى اليوم، ولا بد من وضعها في التنفيذ علما بأن الدراسات منتهية منذ زمن . لا نطالب بانشاء مترو كما فعلت دبي، لأن الامكانات المادية غير متوافرة كما أن جغرافية بيروت ربما لا تسمح به أو تجعل تنفيذه في غاية الصعوبة . نطالب في لبنان بوضع شبكات نقل منتشرة عبر الحافلات حيث أظهرت التجربة الأمريكية نجاحها الموثق .

في شبكة الحافلات الأمريكية، يتم بيع البطاقات عبر الإنترنت مع حسومات تبعا لتاريخ الشراء والكمية . تنقل الركاب من والى مواقف محددة متعددة وليس من والى محطات الحافلات المكيفة والمجهزة المكلفة كما كان الحال سابقا . لا تتوقف الحافلات بين المدن وهنالك منافسة بين الشركات من ناحية النوعية والخدمة كوجبات الطعام وحجم المقعد والمساحة والأفلام القصيرة والطويلة وغيرها . ما الذي يمنع مثلاً انشاء خطوط حافلات مباشرة لا تتوقف بين طرابلس وبيروت عبر 3 خطوط أي طرابلس- الأشرفية، طرابلس-رأس بيروت وطرابلس - بعبدا . ما الذي يمنع انشاء هذه الخطوط بين المدن الأساسية الخمسة في لبنان؟ يمكن وضع خطوط أخرى بتسعيرة أقل تتوقف فيما بين نقطة الأنطلاق والوصول .

في الولايات المتحدة نقلت شبكة الحافلات بين المدن 3 مرات عدد الركاب الذي نقلته قطارات سكك الحديد . تعتبر شبكة الحافلات الوسيلة الأكثر انتشاراً ونمواً اليوم في أمريكا . يرتفع عدد ركاب الحافلات بنسب سنوية تبلغ ضعفي نسب نمو عدد ركاب سكك الحديد . ونجحت شركات الباصات من دون دعم القطاع العام، علما بأن سعر البطاقات لا تتعدى ثلث سعر بطاقة القطار . وينظر المواطن الأمريكي إلى شبكة الحافلات على أنها آمنة، اذ إن حوادثها أقل بكثير من وسائل النقل الأخرى وهي أقل تكلفة من استعمال السيارة الخاصة . وتستهلك الحافلات القليل من الطاقة مقارنة بالقطارات، وهي أقل ضرراً بالبيئة على مختلف أنواعها . فلماذا لا نعتمدها؟

خبير اقتصادي