هل الميزانية البريطانية حقاً غير مشجعة؟

03:46 صباحا
قراءة 4 دقائق

قدم وزير الخزانة البريطاني جورج اوزبورن ميزانيته الجديدة للبرلمان على أنها تهدف إلى تشجيع العمل والعاملين مع الحفاظ على سياسة التقشف لخفض العجز . ورد زعيم حزب العمال المعارض اد ميليباند باتهام حكومة المحافظين المتحالفين مع الليبراليين الديمقراطيين بأن الميزانية تحابي الأثرياء وتزيد آلام الطبقة الوسطى . والواقع أن رأي كليهما صحيح، ما يعني أن الميزانية لا تقدم ولا تؤخر وإنما هي تعبير واضح عن فشل السياسة الاقتصادية للحكومة الحالية وعدم وجود بديل واضح لدى المعارضة .

ربما لم تشهد الميزانية سوى خفض إنفاق بقيمة تقارب مليارين ونصف المليار جنيه استرليني نتيجة التبكير بنهاية المهام العسكرية البريطانية في أفغانستان . أما بقية الأرقام من وعود وتعهدات فقابلة للجدل وتغيير التوقعات بعد فترة، مع التأكيد على استمرار برنامج التقشف الشديد الذي يدفع كلفته العاملون المجتهدون من الطبقة الوسطى . أما تخفيض الضريبة على الشريحة العليا من الممولين من 50 إلى 45 في المئة، فإنها ربما ترضي فئة قليلة من الأثرياء الداعم الأساسي لحزب المحافظين الحاكم لكنها لن تعني شيئاً مما ذكره اوزبورن من جعل بريطانيا أكثر تنافسية للاستثمارات الخارجية . ولم يستطع زعيم المعارضة التعرض للبند الأهم في الميزانية وهو خفض الضريبة على الشركات بنسبة 1 في المئة بما يوفر للأعمال ما يقارب المليار جنيه سنوياً ويحرم خزينة الدولة من المبلغ ذاته . ذلك أن مليباند لا يريد أن يظهر وكانه ضد تسهيل الأمور على الشركات والاستثمارات .

أما ما قدمه اوزبورن على أنه إنجاز لحكومته من رفع حد الإعفاء على ضريبة الدخل فهو لا يعوض ما يسببه ارتفاع التضخم من زيادة كلفة المعيشة لدافعي الضرائب خاصة من الطبقة الوسطى . وواصل وزير الخزانة تعهداته باستمرار التقشف والتخفيض حتى نهاية فترة حكومته ودورة البرلمان الحالي بتقليص نفقات الضمان الاجتماعي وتجميد معاشات التقاعد بل وربما رفع سن التقاعد مجدداً . ما لم نجده في الميزانية، التي تأتي في منتصف عمر الحكومة الائتلافية والبرلمان، الإنفاق لتوفير فرص العمل وتقليل نسب البطالة وتنشيط النمو الاقتصادي . والواقع أن معدلات النمو المتوقعة بدت أقل مما كان مقدراً سلفاً ما يعني أن الانتعاش البريطاني أصبح مؤجلاً مدة أطول بما يعرض بريطانيا لركود طويل الأمد . الأخطر مما عرضه وزير الخزانة في الميزانية هو تمرير عدد من القوانين مؤخراً تصب كلها في إطار سياسة المحافظين التي تبدو فاشلة حتى الآن في اخراج الاقتصاد البريطاني من عثرته كما تعهدوا لدى انتخابهم عام 2010 . فالبرلمان مرر مبدئياً قانون إصلاح التأمين الصحي، والذي يعني عملياً فتح الباب أمام خصخصة الرعاية الصحية والإضرار بواحدة من أهم ركائز المجتمع البريطاني التي ما زالت باقية مع تدهور العديد من الخدمات وتخلص الحكومات المتعاقبة من أركان دولة الرفاه بما جعل بريطانيا أقل في جودة المعيشة ليس فقط من المانيا وهولندا بل حتى من فرنسا وإيطاليا وإسبانيا . كذلك تدرس الحكومة حالياً خصخصة الطرق الرئيسية وإعطاءها لشركات تفرض رسوماً على مستخدميها، بدعوى جلب استثمارات خاصة في قطاع الطرق وتحسينه .

تكتفي المعارضة العمالية باتهام حكومة المحافظين والليبراليين الديمقراطيين بأنها قررت خفض الإنفاق بسرعة وبشدة ولم تشأ أن تغير سياستها لتشجيع النمو . ولا بديل لديها تقدمه سوى الاقتراض للإنفاق، والحقيقة أن أرقام الميزانية توضح أيضاً أن الحكومة اقترضت أكثر من السابق ومما كان متوقعاً، أي أن التقشف الذي يعاني منه أغلب البريطانيين العاديين لم يؤد إلى خفض العجز . ثم إن كل إجراءات التخفيض إنما تستهدف على ما يبدو إزاحة ما هو عام لإعطاء مساحة أكبر للأعمال الخاصة مع بقاء الوضع المالي والنقدي أقرب ما يكون لما هو عليه . ولهذا السبب تفكر بعض مؤسسات التصنيف الائتماني الكبرى في إعادة النظر في التصنيف الائتماني المتميز لبريطانيا .

اعتمدت سياسة الحكومة على أن تقليص الإنفاق العام، مع بعض المزايا للشركات الخاصة والمستثمرين والأثرياء، سينتهي بأن ينشط القطاع الخاص ويوفر فرص عمل تمتص البطالة المتزايدة نتيجة التقشف ويدفع الاقتصاد عموماً للنمو . ولم يحدث أي من ذلك بل على العكس بدا القطاع الخاص أكثر تردداً وكل ما يسعى إليه هو مزيد من الامتيازات على حساب حق الدولة كي يتمكن من تعزيز وضعه بالبقاء على ما هو عليه . وهكذا لم تنخفض البطالة ولم ينشط الاقتصاد، بل على العكس ضعف النمو وزاد إعداد العاطلين . أما الرهان على استثمارات من الخارج، فلا يبدو أنه يؤتي ثماراً وأنت ترى حي المال والأعمال (سيتي أوف لندن) تكثر به الوحدات الإدارية الخالية . فلو أن هناك استثمارات لما أخلت البنوك الاستثمارية وشركات الصناديق مكاتبها من وسط لندن لتقليل النفقات .

وإذا كانت حكومة المحافظين تواصل تقديم الحوافز للأثرياء وأصحاب الأعمال والاستثمارات على حساب دافعي الضرائب التقليديين من العاملين المجتهدين من الطبقة الوسطى على أمل تحقيق أي إنجاز اقتصادي، فالأرجح أن كل ما يمكن تحقيقه هو إبقاء الأوضاع على ما هي عليه دون تدهور . وذلك بحد ذاته أخطر من أن يكون غير مشجع، إذ يعني عملياً الانزلاق في متاهة ركود جديد . وشخصياً أنتظر ما بعد أولمبياد لندن ليمكن تقييم وضع الاقتصاد البريطاني إذا كان سيصمد أم ينهار أما القول بأن يتعافى فيحتاج لوقت طويل للحسم بشأنه . ولتدعو الحكومة والمعارضة ألا يكون أثر الأولمبياد على الاقتصاد البريطاني كما كان على اليونان في آخر مرة استضافتها وانتهى بها الأمر للإفلاس .

خبير اقتصادي

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"