«بيت الشعر» في البحر

02:26 صباحا
قراءة 3 دقائق
وجدت نفسي مصادفة على البحر، واقتربت طواعيةً من تلك البيوت العريقة وهي تطل بشموخ الزمن على الموج، ويلقي عليها الشاطئ تحية إجلال ومحبة كل صباح ومساء، وإذا برائحة تلك البيوت تدعوني لأقترب منها اقتراب قيس من ديار ليلاه وهو يخاطبها بقوله:

أمرُّ على الديارِ ديارُ ليلى

                  أقبِّلُ ذا الجدارَ وذا الجدارا

تلك البيوت كانت تتحدث ببهاء عن الذين عاشوا فيها أو بالقرب منها، وعن الذين حافظوا عليها وعلى أناقتها، ولم تكن خرساء كي أطلب منها التحدث كما طلب عنترة من دار عبلة بقوله:

يا دار عبلة بالجواء تكلمي

            وعمي صباحاً دار عبلة واسلمي

تجولت بين أزقتها وهي تنثر الخرز على بواباتها، وتترصع بلآلئ الجمال وتحيط بجدرانها وثبات الحضارة، وتعرض «دكاكينها» جزءاً من تلك الصورة التي علقت بذاكرة جيل ورث عن الأجداد حكمة الارتباط بالمكان، وإتقانهم للبناء، وبين تلك الطرقات شعرت بأني أتنفس عطر الآباء وبخور الأمهات.

في تلك اللحظات الجميلة كنت مندهشاً وأنا أشاهد الجمهور الغفير من عشاق «ديوان العرب» يتزاحمون على مدخل السفينة المكتوب عليها «بيت الشعر في الشارقة» وجلست صامتا، فاستهل الشاعر الأول قراءته، وبينما هو يتغنى بموسيقى الكلمات إذا بسرب من النوارس يحلق فوق السفينة وكأن الشعر هو القبلة التي يرنو إليها ويطيب له التحليق بالقرب منها، ثم قرأ الشاعر الثاني بلغة بديعة فخرجت بعض الأسماك تقفز فرحاً فوق الماء في استعراض فني مدهش وهي تحاول مشاركة الجمهور الاستماع والاستمتاع بذاك التجلي المبهر مع الشعر، وحين قرأ الشاعر الثالث قصائده بدأ الموج يتراقص وكأنه ريشة في مهب الريح، وجاء دور الشاعر الرابع فأحسست بمجموعة من المراكب تقترب من السفينة، يجذبها الإيقاع، وتطربها الحروف، وتأسرها الكلمات. في هذا الجو المملوء بالفرح والشعر والشعور خرجت حورية فاتنة من البحر الذي شاغلها وشاغلته، فأحبها وعشقها وبادلته اللوعة والهيام، فصفق الحضور لحفلة الجمال، واصطف خطاب هذه العذراء وكل منهم يتمنى أن تكون هي هواه وقلبه، لكنها صافحت خلسة الذين أجادوا لعبة الدهشة وتغنوا بالصورة الآسرة، إنها «القصيدة» حورية البحر التي تجلس مع أولئك الشعراء في هذه السفينة التي يهدهدها الموج، وتحيط بها رمال من فضة تأسر العشاق الذين حين يقتربون منها تتدفق مشاعرهم، وهي ترافق صناع الدهشة وتشيد لهم ديوان العاطفة والحكمة والحماسة وحب الأوطان.
دار حديث بين رواد الجمال عن روعة المكان، وعراقة التاريخ الذي أضاف إلى روعة ما سمعوه شيئاً أبهج النفس، وجعلها مهيأة أكثر للاقتراب من المعنى، والاستمتاع بالمغنى، وتساءلوا: هل حقاً نحن هنا في هذا المكان البديع الذي أخرجنا من ركام الأوجاع ورتابة الحياة وكآبة الشعور؟، أم أننا نعيش هذا الحلم الجميل الذي تصافح من خلاله شمس الشعر وهي تخرج من سماء الفكر على هذه السفينة في هذا البحر الباسم؟، وبينما هم في غمرة هذه التساؤلات وتلك الطموحات كنت أردد في نفسي: وهل الحياة إلا حلم وأمل؟، وهل الشعر إلا ضرب من الخيال والجنون؟، فلماذا لا يحق لهم أن يحلموا؟، لكني عندما رفعت يدي لأقدم مداخلة تشاركهم الحديث عن طموحاتهم المجنونة أفقت من الحلم، وحمدت الله أني كنت كل ذلك الوقت في سياحة فكرية في المنام رأيت فيها «بيت الشعر» يعانق البحر.

محمد عبدالله البريكي

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"