الجعجعة والطحن

23:41 مساء
قراءة 3 دقائق
محمد عبدالله البريكي

لا يمكن أن نتحدث في كل الندوات والأمسيات وما يدور فيها من طرح متكرر وممل لمواضيع تتعلق بأسباب تدني الذائقة وانحدارها إلى مستوى غير مرض، وفي الوقت نفسه نسهم، بعلم أو بدون علم، في هذا التدني الذي يجعل الذائقة تهوي «كجلمود صخرٍ حطه السيل من علِ»، ولا يمكن بناء ذائقة قوية تقف شامخة سامقة في وجه رياح وعواصف تحاول محو تأثيرها وإلغاء وجودها وهدم تاريخها الطويل الذي تقف عليه متهالك لا يقوى على حمل بعوضة وهو أوهن من بيت العنكبوت، وحديث ابتعاد الناس عن جنس أدبي والانصراف إلى غيره ذو شجون ويحتاج إلى توقف حقيقي لمعرفة أسباب هذا الخلل ثم العمل على معالجته، أما أن تستمر العجلة في الدوران في المكان السيئ ذاته، وبالفهم نفسه، وبتلك السرعة التي لا تخفف اندفاعها أو تقف عند معوقات السير، فإن هذا الضجيج سيتكرر، وسنخرج من تلك الندوات والأمسيات العقيمة إلى نتيجة «نسمع جعجعة ولا نرى طحناً».

إن إقامة بعض الفعاليات الثقافية في بعض معارض الكتب أو من خلال بعض المؤسسات المعنية بهذا الهم، والمنوط بها تفعيل دورها يحتاج إلى وقفة جادة من أجل دراسة وضعها ومدى فاعليته في تصحيح المسار، والسير في دروب الجمال التي تعيد الناس إلى دواوينهم العريقة المرتبطة بهمّهم الوجداني وإنسانيتهم، وإلا فإن إقامة الفعاليات من أجل تسجيل الحضور فقط سيكون معول هدم فائق الخطورة، بدلاً من أن يبني مدينة فاضلة للثقافة والأدب.
ولو توقفنا عند الشعر كأحد الأجناس الأدبية العظيمة والمؤثرة في الأمة، فإن من أسباب ابتعاد الذائقة عن هذا الكائن الساحر الجميل هم من ينظمون ويقيمون فعالياته ويفتحون له دواوين لا يقدمون فيها إلا فواكه فاسدة وقهوة باردة، فالاختيار السيئ للأسماء وخلط المستويات من دون مراعاة للتجارب وأهميتها، وإدخال بعض المتطفلين ومدعي الثقافة والشعر سيجعل المتلقي يتأسف على ذلك الوقت الذي ضيعه في ذلك المكان، ولن يذكر من تلك الجلسات غير شربه للقهوة العربية وتناوله بعض التمر والحلويات الجميلة التي أخفت الشعر في الظلمات، وبدت هي كأنها الشمس أو الفاتنة التي التفت الناس إليها ولم يشعروا بمن أتى معها، كما يقول الشاعر «وأقبلت تمشي تقل محدٍ معاها».
قد لا نستطيع أن نصل إلى درجة عالية من الدقة والكمال، ولا نستطيع أيضاً أن نتخلص من المحسوبية تماماً، فالعلاقات الاجتماعية لها أثر، وقد يكون من باب حضورها في بعض الأماكن أجدى من تركها، فمنح الفرصة للبعض مطلوب، لكن يجب أن يكون على درجة مقبولة من الجمال والتأثير، أما أن تدخل المحسوبية من جميع الأبواب وتجلس في مكان لا يليق بمستواها، وتزاحم أولئك الذين تعبوا على نصوصهم وأشعارهم، وفي الوقت ذاته يتبجحون بثقافتهم، وبأنهم مثل أولئك لأنهم جلسوا معهم في المكان نفسه، وشاركوهم الفعالية ذاتها، فهم كمن كذب على نفسه كذبة وصدّقها، واللوم لا يقع عليهم بقدر ما يقع على من تسبب في هذا الجو الكارثي الموبوء، وحسن النوايا لا يعفي المنظم من مسؤوليته تجاه الأدب والثقافة والضمير، وقليل من الدقة في اختيار الكلمة الجميلة التي تحمل صورة مختلفة وفكرة جديدة ولغة آسرة ساحرة، مع قليل من الفلترة لبعض الزوائد والطحالب التي تدفع بنفسها من دون خجل لتكون حول الجمال الشعري، ستكون فعاليات الشعر والثقافة جميلة، وحينها لن ينصرف الناس عن هذا الديوان الذي لا يزال يتغنى بما قاله امرؤ القيس وصولاً إلى هذا العصر الذي يواصل ممارسة دور السحر البياني على الذائقة العربية المحبة له.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"