قصيدة الطفل.. مشروع عربي أصيل

00:39 صباحا
قراءة 3 دقائق
هناك أصوات شعرية كثيرة كتبت للطفل وداعبت وجدانه على امتداد الشعرية العربية، بعضها لم يكن يخاطبه بشكل مباشر، والآخر كان مجرد وعظ، بحيث تتعدد اللاءات التي تنهاه عن أفعال وتدعوه إلى أخرى، وعلى الرغم من أن هناك أصواتاً شعرية كان لها الحضور البارز في هذا الميدان، فإنها لم تقدم الوجبة الوجدانية وتلامس المشاعر الحقيقة للطفل، عدا بعض الشعراء الذين أجادوا في هذا الميدان، وفي هذا العصر الذي نعيشه تعددت مشكلات الطفل، وأصبح يحتاج إلى رافد شعري قوي يعزي وجدانه ويخاطبه بالصورة المباشرة ويدعوه إلى الالتحام مع الإنتاج الشعري، خصوصاً وأن القصة لها الحظ الأوفر في هذا المضمار، وأعتقد أن الكثير من الكتاب الذي ألفوا قصصاً للأطفال كان لديهم الرصيد الوافر من حكايات ألف ليلة وليلة والتراث الإنساني المحكي بوجه عام، لكن يظل الشعر بكامل بهائه هو الوجبة كاملة الدسم التي بإمكانها أن تغني الطفل روحانياً ووجدانياً، وتملأه في الوقت نفسه إحساساً بالموسيقى، فتستثير طاقته وتحركه إلى فضاء أرحب وأكبر، وأنا من ضمن الشعراء الذين يدعون إلى الاهتمام بهذه القصيدة التي تكاد تكون غائبة إلا قليلاً في مجتمعنا العربي، خصوصاً وأن الطفل هو المستقبل وهو الوجه المضيء للحياة، وقد عبرت في أكثر من مناسبة عن ضرورة إشراك الشعراء في ورشات عمل تحثهم على الكتابة عن الطفل أو بلسانه، وأرى أن في داخل كل شاعر طفلاً فوضوياً يستطيع أن يقلب خريطة الأشياء ليرتبها، وفق مزاجه الخاص، وهذه القصيدة من وجهة نظري ليست مجرد كلام يطرح على الورق، وبناء على توصيات وتنظيرات، لكن يجب أن تكون بدافع إنساني، ونابعة من إحساس بقضايا الطفل الوجدانية والمجتمعية وعلى الصعد كافة، فالطفل قضية القضايا، وحتى أكون صريحاً في الطرح، فإنني أشعر بوجه خاص أن الطفل في مجتمعاتنا العربية يعيش غربة كبيرة ليس لها مثيل في التاريخ، وإن كان التعميم ليس منطقياً، لكنني كما ذكرت هو إحساس داخلي لكون هذا الطفل يحتاج إلى إشباع جوانب متعددة في شخصيته الفردية، والشعر واحد من هذه الجوانب، بل إنني أزعم أنه من أهمها على الإطلاق، وليس بوسعنا أن ندفع الشعراء دفعاً لإخراج هذه القصيدة بالسلامة الجمالية الفنية من غرفة الإنعاش إلا بإطلاق الجوائز الكبرى، وإشراك الأطفال في إلقاء القصائد الفائزة، وتحريك دفة الذوق العام نحو قصيدة عربية متفردة للطفل، وأعتقد أن الشعرية العربية بكل قوتها وتوافقها وإشكالياتها المثيرة تستطيع أن تتبنى مشروعاً شعرياً فائق التجاوز في هذه المرحلة إذا حظي هذا المشروع بدعم كبير من قبل المؤسسات والهيئات المعنية بالشعر.
ومن الجدير التذكير به أن جيلنا والجيل السابق منذ ما يزيد على 100 سنة كان يتلقى الأناشيد التعليمية في صورة مقطوعات شعرية أو قصائد مختارة لكبار الشعراء القدماء والمعاصرين، حتى أن بعض الشعر الجاهلي كان حاضراً في كتب اللغة العربية للصفوف الأساسية والثانوية، وبذلك تربت ذائقة التلاميذ على النماذج الرفيعة للشعر، وأكسبته ثروة لغوية واسعة، ودربته على استخدام أنماط ومهارات لغوية متعددة، يزاد على ذلك ما أسهمت فيه تلك الأشعار من تنمية مهارات الإلقاء التي تكسب التلميذ شخصية اجتماعية ناجحة، وتزيل منه عيوب النطق المختلفة، كما تمحو من نفسه الكآبة والخجل، وتضاعف ثقته بنفسه في أثناء الإلقاء.
ولا شك أن جميع العناصر السابقة تقع ضمن أهداف تعليم اللغة العربية عن طريق النصوص الشعرية، الأمر الذي يذكرنا بما دأب عليه العرب في العصور السالفة من تحفيظ أبنائهم آلاف الأبيات الشعرية كي تستقيم ألسنتهم، وتتفقه قلوبهم، وتنمو لديهم منظومة من المروءات والقيم الأخلاقية التي تتضمنها القصائد.
إننا في لحظة يجب استثمارها في المحيط العربي، خصوصاً وأن لدينا أصواتاً شعرية قادرة على تحقيق المعادلة، وهناك بالفعل شعراء يسيرون على الدرب ويقدمون نماذج رائعة، لكن قصيدة الطفل يجب أن تكون مشروعاً جماعياً يسهم فيه جميع الشعراء حتى تتحرك هذه المياه الراكدة وتتلون بماء الشعر، فالطفل أجمل قصيدة عربية يمكن أن تغنى وأن تضم وتشم.

محمد عبدالله البريكي
[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"