مدينة الأدب الخالص

00:32 صباحا
قراءة 3 دقائق
محمد عبدالله البريكي
منذ زمن بعيد وأنا أحلم بمطبوعة أدبية تعنى بالشأن الثقافي العربي، تجمع الكتاب والأدباء والباحثين في بوتقة واحدة، وتشارك الإبداعات الجديدة منجزها الأدبي، هذه المطبوعة هي حلم عشت في رحابه سنوات طويلة، خصوصاً أن لدينا الكثير من المطبوعات في عالمنا العربي التي تصل إلى أيدي القراء، لكن المشكلة الرئيسية أن القليل منها هو الذي يحقق متعة القراءة في بحر الأدب الصافي، وهو ما يجعل من البحث عن مجلة ثقافية تعيد تشغيل حركة النقد، وتستقطب الأجيال المختلفة من المبدعين أمراً مهماً في ظل التنوع الغزير في أنماط الأدب العربي الذي يمر بمرحلة فارقة، تحمل دلالات خطيرة ومؤلمة في كثير من الأحيان.
فالساحة الأدبية تموج بأهلها، ومن الصعب أن تجد تلك التربة التي كانت موجودة منذ عشرات السنين، والتي كانت لا تخلو أيضاً من المنافسات غير المرغوب فيها، لكنها في كل الأحوال كانت هي الأفضل من ناحية الإخلاص للإبداع، والبحث عن سبل جديدة للتطوير، فازدهرت حركة النقد واشتعلت سماء الأدب، فكان لكل أديب عالمه الخاص، وقضاياه التي يدافع عنها، وكانت هذه المطبوعات الأدبية تحتفي بالأدب الخالص، وتبرزه وتعلن عن الأسماء الجديدة في الشعر والقصة والنقد.
أما في عصرنا هذا، فإن بعض المسؤولين عن الصفحات الخاصة بالإبداع يعيشون نرجسية عارمة، ويتبعون الهوى الشخصي، وهو ما أوصل هذه الصفحات إلى حالة من الوهن التام، بسبب إقصاء المواهب الحقيقية، لذا فإنه من الضروري أن تتضافر الجهود كافة من أجل العمل على إخراج مطبوعة أدبية تعيد للحياة الثقافية جوهرها الخالص، وصخبها الذي يشغل الناس، فقد كانت الصحف قديماً تنشر أحياناً في صفحاتها الأولى قصيدة لشاعر موهوب، وليس من الضروري أن يكون هذا الشاعر من المشهورين وأصحاب الأسماء الرنانة، وهو ما ساعد في الماضي على ظهور شعراء بلغوا حداً كبيراً من العظمة.
أما الآن فإن النشر لا يكون في العادة إلا للمعارف والأصدقاء وربما للوجوه الجميلة دون النظر إلى ماهية الإبداع، وأذكر أن ناقداً مشهوراً أهمل الكتابة عن الشعراء وإبراز منجزهم الإبداعي، بدعوى أن ماء الشعر جف، وأن الحداثة لوثته، وأن النثر جعل جميع الناس شعراء، وهذا الادعاء فيه الكثير من التجني، وليس العالم الشعري العربي بهذه القتامة، كما أن هذا الناقد الفذ وجدته أيضاً يبحث عن الروائيات ويكتب عنهن لمجرد أنه لمح صورة الروائية على الغلاف تشع بالجمال والتأنق، وذلك نموذج لأحد نقادنا الكبار في هذا العصر، وصورة متغيرة لبعض الذين حادوا عن الإنصاف في الحياة الأدبية، فأي مرض أدبي عضال هذا الذي نعيشه في هذا العصر، وأي جرح ينكأ ذاكرة الأدب ويحرقها؟.
إنني أبحث عن تلك المدينة الأدبية التي تزدهي بكل صنوف الإبداع، تسلط الضوء على الموهوبين وتفسح المجال للنقد الحقيقي، وتحتفي بكل قصيدة عربية تستحق التقدير، ولن تقوم دعائم هذه المدينة إلا من خلال مطبوعة تعيد للتاريخ العربي الأدبي أمجاده، بحيث لا يكون هناك إقصاء لأحد، حتى وإن كان مخالفاً في الرأي مضاداً في الاتجاه.
لابد من أن نعمر فضاءنا العربي بأيقونة جدية وجديدة تستوعب الإبداعات الأدبية المتنوعة بأشكالها المختلفة، شريطة أن تعمل بلا مجاملة أو نفاق، وحين يتحقق هذا الحلم فسوف تتغير الخريطة الأدبية، ونجد أنصاف الموهوبين عادوا إلى الظل، وأن الموهوبين الحقيقيين وثبوا إلى الصدارة، حتى وإن كانوا ليسوا من أصحاب المعارف أو من الأسماء التي لا نفتح صحيفة أو دورية أدبية إلا ونجدهم في كل الصفحات، وكأن الله لم يخلق غيرهم، أو أنهم ضمنوا الخلود في الحياة الثقافية.
[email protected]
التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"