«الفلسفة الترامبية» والعولمة

03:57 صباحا
قراءة 4 دقائق
الحسين الزاوي

إن حديث بعض المحللين عما يسمونه ب«الفلسفة الترامبية» فيه كثير من المغالطة ويرمي إلى تحقيق نوع من الإثارة الإعلامية، أكثر مما يهدف إلى بلورة عناصر أساسية تتصل بفكر متسق يحمل حداً أدنى من النضج، فالرئيس الأمريكي دونالد ترامب معروف بمواقفه المتقلبة ونفوره من فكر النخب الثقافية، لكن ذلك لا يمنعنا من الحديث عن منطق للسلطة في سياق الممارسة السياسية التي يقوم بها منذ وصوله إلى سدة الحكم؛ منطق يميني يستند إلى آليات فكرية وسياسية بل وعلى استراتيجية مستمدة في جانب كبير منها من الفلسفة البراجماتية والأداتية الأمريكية القائمة على المنفعة، ولكن في صورتها الأكثر تطرفاً، بهدف المحافظة على الزعامة الأمريكية في العالم؛ إذ إنه ومنذ الأسابيع الأولى من حكمه، حشر في الزاوية كل الخصوم الذين ادعى أنهم مسؤولون بشكل مباشر أو غير مباشر عن تراجع النفوذ الأمريكي في العالم لصالح قوى صاعدة على رأسها الصين، وسعى من خلال شعاره: «أمريكا أولاً» إلى تأكيد أن الخصم الأول لواشنطن هو العولمة في صورتها الراهنة التي كانت سبباً في انقلاب السحر على الساحر الغربي بقيادة أمريكا.
وهي العولمة التي انطلقت في نسختها الأولى من أوروبا (عصر الأنوار) وحملت قيماً علمية وإنسانية ذات بعد كوني، وبشّرت بالتعددية والديمقراطية والمساواة وحقوق الإنسان، وتبلورت في نسختها الثانية انطلاقاً من أمريكا، ولكن مع التركيز بشكل أساسي على التنافس وحرية التجارة، وانتقال رؤوس الأموال.
وأدت هذه العولمة القائمة على التنافس المحموم وحرية الأسواق، إلى تراجع سيادة الدول القومية وبروز قوى جديدة في آسيا تمتلك قدرة فائقة على المنافسة، استمدتها من قيمها العقائدية القائمة على تقديس العمل، وعلى فرض وتيرة إنتاج شبه آلية لا يمكن للعامل في الغرب مجاراتها.
ودفع هذا الوضع ترامب إلى العزف على وتر الشعبوية، وإلى المطالبة بتعديل مسار العولمة بعد أن بدأ مركز ثقلها ينتقل تدريجياً نحو آسيا، وبعد أن باتت بلاده تشعر بأنها تفقد السيطرة التدريجية عليها؛ لأنها أصبحت تستند إلى التبعية المتبادلة ما بين الدول والشعوب والحضارات، وتجعل من ثم البشرية تسير نحو عالم يتجاوز المفهوم الكلاسيكي للزعامة؛ عالم تقوده قوى السوق التي لا تؤمن بالسياسات الوطنية.
وتحاول «الفلسفة الترامبية» الآن قلب المفاهيم، من خلال جعل القوى المحافظة تقدم نفسها كبديل حقيقي لقوى التقدم والحداثة المؤمنة بالاختلاف والتعدد والانفتاح على الآخر، كما تسعى «المقاربة الترامبية» على المستوى السياسي، إلى تجاوز الأطر الأخلاقية التي دافع عنها كانط في مشروعه للسلام الدائم في العالم، لصالح مبدأ يدعي الواقعية السياسية في صورتها «الميكيافلية» المشوّهة المبنية على الأنانية والانعزالية القومية، وعلى الفوضى الشاملة التي تجعل منطق الدولة بالنسبة للكيانات الوطنية، يتجاوز منطق العلاقات الدولية القائمة على التعاون وتبادل المنفعة بين الشعوب.. إنها «فلسفة» جعلت من الأكاذيب نسقاً مكتمل البنيان والأركان، وأسلوباً للتواصل على المستويين الداخلي والخارجي.
ويؤكد جيوم إرنر في سياق متصل، أن ترامب يمكنه أن يكون أحد أتباع فلسفة جاك دريدا، ولكنها تبعية مشوهة بطبيعة الحال؛ لأن ترامب جُبِل على قراءة الواقع من المنظور الذي يخدم رؤيته الخاصة، وكأنه يستشهد من حيث لا يدري بعبارة الفيلسوف الفرنسي الذي أثر من خلال فلسفته التفكيكية في الدراسات النقدية في الولايات المتحدة، وهي العبارة التي تقول: «ليس هناك وقائع، ولكن فقط تأويلات».
بيد أن السياق الذي ينفي فيه دريدا الوقائع مختلف تماماً عن سياق ترامب، فالأول يريد أن يدافع عن منهج تأويلي مرن يعطي لنا حرية مدارسة النصوص اعتماداً على آليات متجددة تقدم لنا أفقاً مفتوحاً للقراءة، بينما يسعى الثاني إلى طمس الوقائع التي لا تخدم مصالح بلاده.
وتذهب تحليلات أخرى متصلة ب«الفلسفة الترامبية» إلى أن هناك قواسم مشتركة تربط أفكار ومواقف ترامب وفريقه الحكومي، بمجموعة من المفكرين الأمريكيين ومن بينهم الكاتبة والفيلسوفة من أصل روسي آين راند، التي دافعت عن النزعة الموضوعية وأكدت احترام الرأسمالية القائمة على عدم التدخل والتي اعتبرتها بمثابة النظام الوحيد الذي يحمي حقوق الأفراد، وعارضت النزعة الجماعية كما رفضت هيمنة مؤسسات الدولة من خلال جهازها الإداري، وهي الأفكار التي حاول فريق ترامب الاستناد إليها من أجل مواجهة الدولة العميقة وأجهزتها المتحكِّمة في سلطة القرار في واشنطن.
ويمكن القول إن «الفلسفة الترامبية» لا ترفض فقط العولمة في صورتها الاقتصادية التي ادعى ترامب أنها أصبحت مُضرة بمصالح أمريكا، ولكن أيضاً في صورتها الثقافية التي سمحت بتأسيس بداية مشجعة لحوار الثقافات، وبالتالي فهي تحيلنا إلى الإخفاق الكبير الذي واجه النخب اليسارية والديمقراطية في أمريكا، وجعلها تفقد القدرة على التأثير في قطاع كبير من الأوساط الشعبية، وهو الأمر الذي أشار إليه الفيلسوف الأمريكي ريتشارد رورتي في كتاب صدر له سنة 1998 وتنبّأ فيه بفوز «رجل قوي» شعبوي وديماغوجي، وبعودة التيارات اليمينية المتطرفة.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

أستاذ الفلسفة في جامعة وهران الجزائرية، باحث ومترجم ومهتم بالشأن السياسي، له العديد من الأبحاث المنشورة في المجلات والدوريات الفكرية، ويمتلك مؤلفات شخصية فضلا عن مساهمته في تأليف العديد من الكتب الجماعية الصادرة في الجزائر ومصر ولبنان

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"